عندما قتل طبيبُ سجن تدمر غريمَه

2023.08.14 | 06:08 دمشق

عندما قتل طبيبُ سجن تدمر غريمَه
+A
حجم الخط
-A

أعترف بأنني لم أقتنع بهذه القصة حين سمعتها أول مرة، وظننتها من مبالغات السجناء، ففيها كل ما يصدق عليه وصف «شي متل الكذب». لكن قراءتها في معظم المذكرات السجنية التدمرية، والاستماع إليها من شهود عاصروا حلقاتها المختلفة، ثم العثور على أبطالها في الواقع؛ كل ذلك أثبت صدقها المفجع. وهأنذا أعرضها بعد تدقيقها من المراجع والشهود وتخليصها من بعض المبالغات الشفوية والخيال الروائي.

بدأت الحكاية في عام 1973، عندما توجّه طلاب دفعة جديدة إلى كلية الطب البشري بجامعة حلب، يحدوهم الأمل بمستقبل اجتماعي واقتصادي متميز. لم يعرف ثلاثة منهم، فتاة وشابان، أنهم يضعون أقدامهم على أولى خطوات الكارثة.

أتت (منى. أ. د) من عائلة حلبية معروفة وميسورة. وبحجابها الأنيق، الذي لا يخفي جمالها الظاهر، بدت شابة محافظة باعتدال ومشغولة بدراستها. وفي السنة الخامسة صارت تتلقى رسائل غامضة، ورقية في ذلك الزمن، من معجب مجهول، أو عاشق متيّم، تخلى عن حذره بعد عدة أشهر وكشف عن نفسه عارضاً عليها الزواج.

هو زميلها يونس علي، ابن قرية المقبلة التابعة لبرمّانة المشايخ بريف طرطوس. وكان يتحدر من أسرة متواضعة كثيرة الأبناء لوالده الذي سيُعرف لاحقاً بلقب «الشيخ حسن». لكن يونس كان معتداً بنفسه، فبعد النجاح الدراسي الذي حققه بدخوله كليّة الطب تطوّع في الجيش لتصبح دراسته على حساب القوات المسلحة التي منحته راتباً شهرياً يغطي احتياجاته ويزيد، وضمن مستقبله كضابط طبيب. فكان يرى في نفسه زوجاً مناسباً لأي فتاة.

بالنسبة إلى منى كانت تلك التركيبة غريبة وبعيدة. ولم يكن هذا النوع من المستقبل في حساباتها ولا من مألوفات بيئتها. وذلك فضلاً عن بعض الدمامة التي اتسم بها يونس، وشيء من الفوضى والعناد في شخصيته، كما يصفه عارفوه وقتئذ. فاعتذرت عن عدم قبول عرض الزواج.

لم يكن الأمر سهلاً على يونس، الذي تحرك في نفسه مزيج حانق من عوامل طبقية واجتماعية وطائفية فائرة، فاستمر في ملاحقة زميلته بشكل متواتر مما اضطرها، بعد لأي، إلى اللجوء إلى عميد الكلية، ثم رئيس الجامعة، وأخيراً الشرطة العسكرية بما أنه من ملاك الجيش، من دون فائدة.

على الطرف الآخر من المدرّج كان هناك زميل حلبي يكاد أن يكون النسخة الذكورية لابنة مدينته هو محمد زاهد داخل. ابن عائلة محافظة وميسورة، وسيماً، خجولاً، محبوباً من رفاقه، يسير في حياته بثبات نحو الأهداف المنظمة لمن هو في مثل حالته، التخرج والزواج. ولما علم من بعض قريباته أن زميلته تحضر معهن بعض الدروس الدينية زادت قناعته بأنها زوجة المستقبل، فتقدّم إليها بشكل رسمي تقليدي، وتمت الموافقة وسعدت العائلتان «المتكافئتان».

 

محمد زاهد داخل (الأول من اليسار) في صورة طلابية
محمد زاهد داخل (الأول من اليسار) في صورة طلابية

 

جنّ يونس وصار يلاحق الخطيبين، اللذين عقدا قرانهما، وهما يستخرجان أوراق التخرّج ويسجلان في نقابة الأطباء. ويهدد زاهد، الذي التحق باختصاص الجراحة العامة، طالباً منه ترك خطيبته/ زوجته تحت طائلة اتهامه بأنه من «الإخوان المسلمين». فقد صرنا في العام 1979 وكانت حلب تغلي.

فوق أنها مهينة وغير معقولة بدت تلك التهديدات فارغة وخرقاء ولا معنى لها، لكنها لم تكن كذلك...

ففي تلك الأيام وصل الرائد حسن خلوف إلى المدينة، معاوناً لرئيس فرع المخابرات العسكرية الضاربة فيها. يتحدر خلوف من طرطوس، وطوال مدة خدمته الطويلة في حلب بسط رعايته على «الطلاب الطراطسة» في جامعتها. وفي ذلك الوقت بالذات كان لطلاب الطب منهم مكانة خاصة، فقد كان شقيقه الأصغر محمد يدرس في هذه الكلية. وهو أخ سيظل أثيراً إلى قلب الضابط لوقت طويل، وبعد إقامته في فرنسا سيحوّل له ما يحصّله من عمولات ورشاوى لتبقى بعيدة عن الأنظار. وفضلاً عن ذلك فقد كانت علاقة يونس الأمنية الرسمية هي مع فرع المخابرات العسكرية بحكم تطوّعه، ويروي بعض المطّلعين أنه لم يقصّر في «محاربة الإخوان المسلمين» في كليّته.

ليس هناك دليل على انتساب زاهد إلى الجماعة لكن جسمه كان «لبّيساً» لتهمة كهذه. فقد كان منزل ذويه في منطقة «تحت القلعة» التقليدية المتدينة في حلب القديمة التي كانت تعج بالتحركات، وكان صديقاً لكل الطلاب الحلبيين في الكليّة والذين بينهم إخوان. وقد ساعدت هذه الظروف، بالإضافة إلى حداثة خبرة حسن خلوف وقتئذ وظروف التوتر الأمني الشديد، في اعتماد التقرير الذي كتبه يونس. فاعتقل زاهد في عام 1980، بعد زواجه بوقت قصير. ولم يطل الأمر حتى تم تحويله إلى سجن تدمر الرهيب.

وصل داخل إلى تدمر في 9 آب 1980، على الأرجح، ضمن دفعة تضم نحو مئة معتقل نُقلت من حلب يومئذ، وتعرضت لحفل استقبال وحشي دام أكثر من اثنتي عشرة ساعة في ذلك السبت من أواخر رمضان، ثم أودعت في المهجع المزدوج (5-6) المطل على الباحة الأولى، الذي كان مظلماً ورطباً وخانقاً لخلوّه، تقريباً، من التهوية، وحتى من «الشرّاقة» في السقف التي كان السجانون يعلِّمون منها معتقلين محددين لتعذيبهم منفردين في وقت لاحق. لكن زاهد شعر وكأنه «معلَّم»، بعد مدة، من دون مبرر واضح، فقد كان عناصر الشرطة العسكرية يُخرجونه ويعذبونه بطريقة همجية متكررة. ولم يطل الوقت حتى عرف السبب.

كان يونس، في مفتتح حياته العسكرية الآن، قد طلب تعيينه طبيباً لسجن تدمر. وهو أمر يتجنبه أي من زملائه بسبب المشقة الكبيرة للمهمة، فتمت الموافقة له فوراً، وبالسرعة نفسها توجّه للانتقام من غريمه. وعندما ملّ من تعذيبه عبر الآخرين دخل إلى المهجع، في أحد أيام صيف 1982، وأمره بالالتفات عن الجدار ومواجهته وضربه بتشفٍّ، ثم أشار بيده لصف الضابط والمجندين المرافقين بالإجهاز عليه. ولم يكن هؤلاء ينتظرون أكثر من ذلك ليحطموا جمجمة الأسير.

قضى يونس سنواته اللاحقة في سجن تدمر يمارس إجراماً اعتيادياً. ففي «رقبته» مئات الضحايا الذين قضوا نتيجة نقص الرعاية الصحية، ومئات آخرون قتلهم السجانون عرَضاً ودبّج لهم شهادات وفاة طبيعية، والآلاف من الذين أُعدِموا وكان عليه أن يتأكد من موتهم وإلا شُنِقوا مجدداً قبل أن يوقّع تقريره ليتم دفنهم في مقابر جماعية في الصحراء.

لا نعرف إن كان يونس علي قد عانى من الكوابيس الليلية، كما يكتب القصّاص ويتمنى المظلومون. لكنه ضجر من وظيفة حارس بوابات الموت في نهاية الأمر، فسعى في نقله إلى مشفى تشرين العسكري ثم إلى مشفى يوسف العظمة (601). اختص بالأمراض النسائية وجراحتها والتوليد. ولما تقاعد من الخدمة العسكرية، برتبة عميد، عاد إلى محافظته. وهو الآن يقسم وقته بين عيادتيه في كل من طرطوس وبرمّانة المشايخ.

 

يونس علي
يونس علي

 

ترك زاهد وراءه جنيناً، سيتبيّن أنه أنثى ستحمل اسم نور. وستتفرغ منى، التي لن تعرف باستشهاد زوجها إلا بعد سنوات، للعناية بابنتها ثم الاستمتاع بأحفادها. وعندما ستندلع الثورة لن تظهر على الأسرة نوازع ثأرية، بل ستتخذ خياراً حلبياً شائعاً بسؤال الله السلامة التي لن تتحقق إلا عندما هاجرت إلى بلد أوروبي.