عمَّ يتحدث السوريون في هذه المرحلة إنْ التقوا؟

2023.12.02 | 07:02 دمشق

عمَّ يتحدث السوريون في هذه المرحلة إنْ التقوا؟
+A
حجم الخط
-A

تطحننا الحياة بتفاصيلها، نركض خلفها أو تركض خلفنا، يسرق الزمن أعمارنا في المنافي وفي الجغرافيات السورية الضالة، يطرح صديق أديب سؤالاً بسيطاً قصيراً: عمَّ يتحدث السوريون اليوم إنْ التقوا؟

نفرح بكلمة اللقاء، التي استمدت دلالات جديدة في الدفتر السوري المرير، بعد أن كانت كلمة عابرة في معجمنا: اللقاء! ما أجمل اللقاء بعد تلك الغربات المتتالية، التي تجرشنا برحاها، يقيم ذلك الصديق الأديب في أميركا وفي أميركا هناك فرصة للقاء والفعل والتجاوز والبدايات الجديدة حيث يقتضي الاقتصاد ونمط الحياة الاستمرار والقدرة على البدايات الجديدة!

السؤال مؤلم جداً جداً لأنه مرآة والمرآة كاشفة وموجعة، السؤال يعيدنا للتفكير بما نخاله مسلمات، نهرب من التخويض فيها، ومؤلم لأننا سنكتشف أنه لم يكن يوجد سوريا إلا في مخيلتنا.. ولدى النبش فيه يمكننا أن نقول بعدمية الخاسر والمهزوم:

هل يوجد شيء اسمه السوريون أم الأصح العشائر السورية والتيارات السورية والجغرافيات السورية، هذا إنْ بحثنا عن المشترك فيما مضى، بعيداً عن المشترك الجغرافي والوثائق الرسمية والاسم الذي كنا نختبئ خلفه لنخفي عجزنا وعدم قدرتنا على الفعل!

السوريون في الداخل يتحدثون يومياً ولم ينقطع الحديث فيما بينهم، تبعاً لمصالحهم وضحاياهم ووعيهم وحاجاتهم اليومية ومدى اهتمامهم بالشأن العام وثقافتهم، وأجندات من يعملون معه أو يعملون لصالحه.

السوريون عامة يتحدثون مع بعضهم لكن عم يتحدثون؟ وهل سيتحدثون بصراحة؟ وبأريحية ودون خوف؟

سوريو الخارج بدؤوا يوطنون أنفسهم على غياب طويل بعد أن فقدوا الأمل بتغيير سياسي مريح.. وأولادهم يقولون: ما سوريتكم هذه الممتلئة بالمشكلات والتخريب والنكوص والوجع!

يتحدث السوريون عن الماضي القريب؟ وما فعلوه ببعضهم! قد يبقى وقت للحديث عن حاضرهم وجوعهم وصورتهم السلبية عند الآخر سيتعبون من تلك السهرة المملة ويؤجلون الحديث عن مستقبلهم، إنْ كان لهم مستقبل مشترك؟ ولمَ يكون لهم مستقبل مشترك وما فائدته؟ وما مدى إمكانية وجوده؟ وهل من ظروف موضوعية ملائمة له؟

سوريو الخارج بدؤوا يوطنون أنفسهم على غياب طويل بعد أن فقدوا الأمل بتغيير سياسي مريح.. وأولادهم يقولون: ما سوريتكم هذه الممتلئة بالمشكلات والتخريب والنكوص والوجع! ملاذ لا يكون لنا سوريا مثل "سوريات الآخرين" الذين يذهبون بالصيف ليقضوا فيها أجمل الأيام، يعيش فيها أناس طبيعيون لا تملأ الثارات لياليهم ونهاراتهم!

يتحدث سوريو الخارج عن سوريا مشتهاة، سوريا لم تعد تستطيع أن تلحق بركب العالم ولو كان لديها أفضل عدَّائي العالم سياسياً! كيف ستحقق "سورياك" وأنت بينك وبين العالم خدماتياً وتعليمياً ووسياسياً نحو نصف قرن أو أكثر!

يتحدث السوريون الحالمون عن سوريا متخيلة كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق لكنها لم تتحقق وربما لن تتحقق!

يريد الكثير من السوريين أن يتحدثوا مع بعضهم لكن لا يوجد مادة للحديث، فهم إنْ تحدثوا عن تاريخهم فلن يجدوا فيه ما يجمع إلا القليل.. وإن تحدثوا عن حاضرهم فهو ممتلئ بالنكبات والضحايا والثارات.. وإن تحدثوا عن مستقبلهم فلن يجدوه مع بعضهم، ربما سيجدونه مع كثيرين آخرين من بلدان أخرى لكن لن يجدوه مع سوريين آخرين، أما أطفال السوريين اليوم وشبابهم في الداخل والخارج فيركضون ليل نهار يبحثون عن فرصة محترمة للعيش بعيداً عن سوريا، أما الجيل "السوري" الذي بلغ الأربعين وما بعدها فربما هو آخر جيل تعنيه سوريا بالمفهوم الحالي، من سيهتم ببعث الحياة في سوريا، ولماذا يطلب من السوريين فوق طاقة الإنسان خاصة بعد أن رأى سوريون كثيرون في غربتهم كيف يعيش الآخرون ويركزون على تفاصيلهم وأهدافهم البسيطة ليكونوا جزءا من دورة الحياة وليس ليعيدوا اكتشاف كل شيء بعد أن سبقهم الآخرون بعقود!.

بالتأكيد هناك: سوريا حالية لدى التجار والمرتزقة والشبيحة من كل الأطراف الموجودة في سوريا وهي مكان مثالي للصفقات والمخالفات والممنوعات والكبتاغون وزراعة الحشيش والتجارة السوداء لا يوجد فيها قانون لذلك كل شيء فيها ممكن، يستثمر فيها كل من يرغب بالثراء السريع والصفقات السوداء.

سوريا بالنسبة لكثيرين خارج سوريا كما يقول أديب سوري مغترب، نهشت الغربة أطراف روحه:

سوريا مكان مثالي لـ "قبر" بأرض مشمسة، إنها المكان المثالي للموت ومراسم الدفن حيث سيتوقف كثيرون لقراءة ورقة النعوة على جدران متهالكة سيقرؤها عابرون، وسيأتي عاملون بتلصيق أوراق النعوة بعد ساعة أو ساعتين ليلصقوا ورقة لميت آخر جديد فحسب!

سوريا مكان مثالي لتتحدث الجثث مع بعضها وتتساءل: لماذا وكيف وما الذي حدث؟ ينظرون إلى بعضهم بعض ويقولون: لمذا يجب أن نتحدث؟ الأفضل ألا نتحدث!!!

لا يقتنع الكثير من السياسيين والباحثين والأكاديميين بكلام الأدباء أو المهزومين هذا، ويبحثون هنا وهناك في أروقة الأمم ومزاريب السياسة عن ثقوب يمكن لـ "سوريا" أن تنفذ منها نحو حل ما، لا علاقة له بأحلام الماضي القريب، أو المقارنة بحالة الدول الأخرى، لأن مسيرة الحياة ومآل الأزمات يقتضي الحلول، ولأن الصراع لا يمكن أن يكون هو الحل الدائم، فالصراع تاريخياً حالة مؤقتة، لا بد أن يأتي بعده حل ما، قد يغدو دائماً وقد يكون مؤقتاً ومفتاحاً لصراع جديد، المؤكد أن السوريين إن التقوا أو لم يلتقوا، وإن تحدثوا أو صمتوا مشتاقون لحل من نوع ما! حلٌّ من نوع ما يعيد لهم الأمل أنه كان هناك بلد اسمه سوريا، عاشوا فيه وحلموا فيه وتعلموا فيه وحسبوه وطنهم المتخيل سنوات طويلة.

عمَّ سيتحدث السوريون اليوم إنْ التقوا؟ المهم أن يلتقوا أولاً، وبعدها سيجدون مئة شباك وشباك للحديث معاً، ستهطل على اللقاءات أمطار الحب والحنين والذكريات

إن التقى السوريون اليوم سيتحدثون عن سنواتهم الأخيرة، وانكساراتهم وتحولاتهم، ونجاحاتهم، سيتذكرون أياماً وحارات وذكريات ستملأ جزءاً من سهراتهم، وربما يودوعون بعضهم بالقول: بالتأكيد سنلتقي مرة أخرى إن لم يكن في أوروبا، يمكن في إسطنبول أو لندن أو عاصمة خليجية ما، لكن بالتأكيد أفضل اللقاءات يا صديقي هو في ساحة الأمويين هناك حيث سنرقص وندبك معاً، عبر بث مباشر بفرحة العودة واللقاء مرة أخرى..

وسنمشي معاً، نحو حارات قديمة، ونكمل طريقنا آخر الليل نحو قمة قاسيون، حيث سنأكل الفول النابت ونعصر الليمون على مرقته، وننام على أكتاف بعضنا؛ إلى أن تطلع الشمس على سوريا التي حلمنا بوجودها أو تخيلناها!

عمَّ سيتحدث السوريون اليوم إنْ التقوا؟ المهم أن يلتقوا أولاً، وبعدها سيجدون مئة شباك وشباك للحديث معاً، ستهطل على اللقاءات أمطار الحب والحنين والذكريات، ستبلل أرواحهم المتعطشة بالشوق، وسيجدون ألف باب وباب يلم شملهم ويفتت دهاليز غربتهم، ويبدؤون كما حدث من قبل بنسج أحلام جديدة وسوريا جديدة!