شهدت العلاقات الرّوسيّة الإيرانيّة جملة تحوّلات منذ أن قرّر بوتين إدراج الاتفاق النّوويّ مع إيران ضمن عتاده الحربيّ الخاص بمقارعة الغرب في السّاحة الأوكرانيّة وغيرها.
فاتحتها كانت محاولة إيران التّعبير عن الاستياء وإطلاق مواقف تقارب الحرب في أوكرانيا بالحياد قبل أن تصل إلى الانحياز للمواقف الرّوسيّة وإرسال مقاتلين من ميليشياتها للمشاركة في الحرب ضد أوكرانيا.
وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللّهيان الّذي يزور لبنان حاليّاً كان عراب المشهد الانتقالي في روسيا الّتي زارها منذ فترة معلناً وضع بلاده تحت وصايتها.
تأتي زيارته إلى لبنان لتستكمل سياقات الانصياع للإرادة الروسية ومحاولة اللّعب ضمن ما تتيحه وتسمح به، خصوصاً بعد أن فرضت الحرب على أوكرانيا ضرورة تمتين المصالح مع دول الخليج بحثاً عن إنشاء محور فعّال يستطيع بوتين من خلاله مقارعة غرب تقف على رأسه إدارة أميركيّة لا تمانع إنجاز اتفاق نوويّ يحمل معنى إطلاق يد الحرس الثّوريّ في المنطقة بعد رفعه عن لائحة الإرهاب.
روسيا حاليّاً وفي مفارقة لافته هي القوة الّتي تحول دون إتمام هذا المشروع الأميركي، وقد نجحت في استثمار مخاوف المنطقة من إيران في إنشاء محور يمكنه أن يكون شديد الفاعليّة مع ارتفاع تأثير موارد الطاقة في الحرب وعجز أوروبا عن التّخلص من إدمان الغاز الرّوسيّ ورفض دول الخليج بيع الأميركيّين موقفاً في هذا الصّدد في الوقت الّذي تنهال فيه الصّواريخ الحوثيّة على السّعوديّة وتحجب فيه أميركا الصواريخ الدّفاعيّة عنها.
من هنا نخلص إلى أن عنوان التّحالف العريض الّذي تركّبه روسيا إنما يتصل مباشرةً بعنوان لجم إيران، في حين بات الاتفاق النّووي في صيغته المطروحة عنواناً مباشراً لإطلاق يدها.
لا يأتي عبد اللّهيان إلى لبنان بعد أن سبق له أن أعلن دخول إيران في بيت الطاعة الروسي إلا ليعلن عن توظيف البلد للتنفيس عن مآزق إيران عبر الدفع إلى إشعال الحرب في الداخل والخارج
عليه لا يبدو مفهوما الكلام عن تسليم المنطقة لإيران المحاصرة بسياقات دوليّة لا تصبّ في صالحها، وخصوصاً أنّ الرّغبة الأميركية الكبيرة في إنجاز اتفاق معها تتصل بشبكة تنازلات، باتت عنواناً لتنازع أميركيّ داخليّ يهدّد شعبية الدّيمقراطيّين ويُستعمل في الانتخابات النّصفيّة، ويشكل منذ الآن عنواناً لمعركة عودة الرئيس الجمهوري السّابق دونالد ترامب إلى الرّئاسة في انتخابات 2024.
لا يأتي عبد اللّهيان إلى لبنان بعد أن سبق له أن أعلن دخول إيران في بيت الطاعة الروسي إلا ليعلن عن توظيف البلد للتنفيس عن مآزق إيران عبر الدفع إلى إشعال الحرب في الداخل والخارج وتغليف هذه النزعة بعناوين اقتصاديّة وإنمائيّة.
في موازاة حديثه عن استعداد بلاده لتقديم حلول لأزمة لبنان الكهربائيّة المزمنة الّتي صنعها حلفاؤه كان قد أعلن عن حرصه على إجراء الانتخابات في موعدها لتكريس شعبية الثّنائي الشّيعي، وأكّد أن إنجاز الاتفاق النّوويّ سيكون متيسراً في فترة قريبة في حال سلكت أميركا الاتجاه الصّحيح.
في الوقت نفسه كان حزب الله يطلق مواقف تدين السّعودية الّتي كثر الحديث مؤخرا عن عودة سفيرها البخاري إلى لبنان لفتح صفحة جديدة من العلاقات مع البلد تسمح بتدفق حزمة مساعدات تخفّف من حدة الأزمات. توقيت مواقف الحزب تؤكّد على تخوّف إيراني بارز من أي عودة سعوديّة إلى لبنان، ولو من الباب الإغاثي، لأنها لا يمكن إلا أن ترتبط بسياقات العلاقات الرّوسيّة السّعوديّة الجديدة التي تحمل بالنسبة للسّعوديّين عنواناً رئيسيّاً ووحيداً وهو لجم إيران وإجبارها على إيقاف مدّ الحوثيّين بالصّواريخ الباليستيّة الّتي تستهدف أراضيها وإنهاء الحرب.
تزامنت مواقف حزب الله مع تصريح لافت لوزير الخارجيّة الإسرائيليّ يائير لابيد يعلن فيه بوضوح أنّ قرار إسرائيل بمقاربة الحرب في أوكرانيا بالحياد نابع من رغبتها بعدم إغضاب الروس في سوريا، ما يعني مباشرة مقايضة هذا الموقف بالتّغاضي الرّوسيّ عن الرّفع من وتيرة غاراتها ضدّ إيران وميليشياتها في سوريا.
كتلة المواقف المتراكمة هذه، إذا ما أضفنا إليها استحالة إنجاز الاتفاق النّوويّ من دون موافقة روسيا وإسرائيل ومراعاة مصالح دول الخليج ومخاوفها الأمنيّة، تجعل زيارة عبد اللهيان إلى بيروت محاولة يائسة لصناعة خطة حرب ضمن صيغتين.
تتعلق الأولى بانتخابات يتم التّمهيد لها بفتح حرب تخوين على خصوم حزب الله، وتسخير القضاء في محاولة ضرب المصداقيّة انطلاقاً من عناوين تجييشيّة، من قبيل استغلال أحداث الطّيونة الّتي سقط فيها عدد من القتلى من صفوف الثّنائي في سبيل فتح معركة بعنوان شيعي ضدّ سمير جعجع.
الصّيغة الثّانية ترتبط بمحاولة استغلال الرعب الإسرائيلي من مآلات الاتفاق النّوويّ ودفع إسرائيل إلى فتح معركة ضد إيران خارج السّاحة السّوريّة الّتي تشكّل بالنسبة إليها ساحة النفوذ الأساسيّة في المنطقة.
عبد اللّهيان وعلى عكس كلّ الحديث عن قرب إنجاز الاتفاق النّوويّ اتّهم الأميركيّين بالتّعطيل، على الرغم من المغريات الّتي تعلن أميركا عن استعدادها لتقديمها في سبيل إنجازه.
حسابات إيران المرتبطة بإطلاق يدها في المنطقة بعد إنجاز الاتفاق النّوويّ لم تعد قائمة فعليّاً. التّوصّل إلى أي صيغة لإخراجه إلى النّور تتطلّب تعديلاتٍ جوهرية عليه تتّصل بنفوذ إيران الخارجيّ ووضع ميليشياتها.
المشروع كلّه بات أسير توافقات أميركيّة روسيّة خليجيّة إسرائيليّة ومسارات الحرب على أوكرانيا. تالياً فإن اللّعب الوحيد الذي بات متاحاً لإيران هو تفجير الأمور من لبنان عبر ميليشياتها بحثا عن ساحة بديلة عن ساحة سوريّة ستجد نفسها خارجها قريبا.
انتقل المحور الّذي كانت إيران تعتقد نفسها جزءا منه إلى موقع آخر ووجدت نفسها تحت وصاية روسيّة إجباريّة
التّصعيد في الحرب اليمنيّة ورفع وتيرة استهداف السعودية من شأنه أن يصطدم قريبا بجدار حماية روسيّ صلب مع تعميق الروابط التّحالفيّة بين الخليج وبوتين من ناحية، والتّعويل على الصين لإنشاء معامل صواريخ باليستيّة بهدف الاستغناء عن الصّواريخ الأميركيّة الدّفاعيّة.
انتقل المحور الّذي كانت إيران تعتقد نفسها جزءا منه إلى موقع آخر ووجدت نفسها تحت وصاية روسيّة إجباريّة.
من ناحية أخرى تجد نفسها موضوعيّا منسجمةً مع الشّيطان الأكبر الأميركي، الّذي أدت رعونته في التعاطي مع مخاوف دول المنطقة عموماً ودول الخليج خصوصاً، إلى انصرافها عنه.
هكذا لا يبقى لعبد اللهيان من شيء يفعله في لبنان سوى البحث عن حروبه الصغيرة بالانتخابات المسيطر عليها سلفا، وخلق جوٍ يستجرّ حرباً مع إسرائيل من بلد مأزوم تعود إليه ميليشياته بعد خروجها مرغمةً من سوريا، ويقدَّم بوصفه جائزة ترضية في حين أن وضعه يجعله حقل ألغام.
إيران تعلم أنّها خسرت الحرب. خطابها العام بلسان اللّهيان يعلن أنّ كلّ ما تريده ولا تزال قادرة عليه يقتصر على نشر الخراب.