صراع صناعة التجميل والقبح في سوريا

2023.08.20 | 06:29 دمشق

صراع صناعة التجميل والقبح في سوريا
+A
حجم الخط
-A

كلما ضاقت الحلقات حول اللاجئين السوريين في بقاع العالم تعود فكرة العودة إلى البلاد وكأنها الخلاص الأخير لنا، فالعودة إلى بلاد لا يستطيع أحد طردنا منها هي أقصى أحلامنا اليوم، ولأن هذا الاحتمال غير وارد وفقاً لواقع التجربة، وفي نقاش مع بعض الأصدقاء حول إمكانية العودة في حال أُتيحت الفرصة لم أكن أملك إجابة وربما لم أكن أملك شعوراً واضحاً فالأمر كان معقداً إلى درجة يتضارب فيه خليط من المشاعر.

كانت لعنة جيلنا أن بُترت حياته في المنتصف ووجد نفسه في برزخ بين مكانين لم يتمكن أن يسكن أحدهما تماماً، وقد يصبح الأمر أكثر سهولة فيما لو كان السؤال موجهاً من جيل الآباء إلى جيل الأبناء اليوم، فهم لا يعرفون كثيراً عن بلادهم الأم ولا تشغلهم فكرة العودة من عدمها، لقد غرسوا جذورهم في بلاد مختلفة وبنوا ذاكرة معها ومع أبنائها.

ولأن حب البلاد لعنة ما زالت تتلبسنا منذ خرجنا منها، ولأننا لم نستطع إخراجها منا، فإننا ما زلنا نحيا حياة كاملة وكأننا ما زلنا هناك ونترقب أخبارها ونتربص بتفاصيلها لأننا لم نتمكن من العيش في منفاها حتى الآن.

آخر الأخبار الواردة من هناك صدور مجلة فنية جديدة تقدم أخبار الفن والفنانين في سوريا، وتنقل واقع المجتمع الفني في دمشق، وهو أمر بقدر ما هو غريب بقدر ما يبدو مضحكاً في الوقت نفسه، فما هي الأخبار الفنية التي قد تعني السوريين اليوم وما هو الداعي لتوزيع مجلة ورقية في ظل انتشار وسائل الإعلام الرقمية؟

بعد عقد ونيف من القتل الممنهج أصبحت سوريا دولة تشتهر بصناعة التجميل، ويقصدها من يذهب لتقويم الأسنان أو علاج البصر أو من يود إجراء عمليات التجميل بمختلف أنواعها

الحقيقة أنه وبقدر ما قد يبدو ذلك غريباً لكنه ليس أقل غرابة من حالة صيرورة سوريا اليوم مقصداً للسياحة التجميلية في المنطقة والعالم، فبعد عقد ونيف من القتل الممنهج أصبحت سوريا دولة تشتهر بصناعة التجميل، ويقصدها من يذهب لتقويم الأسنان أو علاج البصر أو من يود إجراء عمليات التجميل بمختلف أنواعها مستفيدين بذلك من انخفاض قيمة العملة السورية مقارنة بالدولار.

ربما يصبح أقل غرابة إذا ما عرفنا أن من يسيطر على سوريا اليوم في مجال الاستثمار، طبقة من المتنفذين وأثرياء الحروب الذين يعيشون في عالم موازٍ لا يشبه عالم السوريين البسطاء اليوم، وأن أبناءهم يقودون سيارات لم تعرف مثلها البلاد من قبل، ويرتادون مطاعم باهظة ويدرسون في مدارس دولية بينما يوجد على الجانب الآخر سوريون يفترشون الأرصفة ويبحثون عن بقايا طعام في مخلفات الأثرياء يسدّون به جوعهم وعطشهم، لكن الأزمة تكمن في أنه لا يوجد أدنى تواصل بين الطرفين ولا يمكن وجود قواسم مشتركة بينهما حتى وإن كانوا مواطنين للبلد ذاته.

إذاً هل نفكر  في العودة إلى سوريا؟

في لقاء رئيس النظام السوري الذي أجراه مؤخراً مع إحدى المحطات التلفزيونية العربية، أوضح أن نحو نصف المليون من اللاجئين قد عادوا إلى البلاد في العام الفائت بعد سلسلة من الإجراءات والمحادثات مع الجهات المعنية وفقاً لأقواله، وأنهم كانوا في مأمن عن المساءلة الأمنية والقانونية ولم يتعرضوا لأي إجراء تعسفي على الحدود وهو أمر يعرف أغلبنا أنه ليس حقيقياً، وأن كثيرين ممن وصلوا إلى الحدود  قد فُقد الاتصال معهم ولم يعودوا إلى ديارهم بعد ذلك.

في سوريا اليوم يصنع الأطباء الجمال ببضعة خطوط يخطونها بمشرط لإصلاح ما أفسده الدهر من خطوط وتجاعيد، ولكن ذلك لا يمنع حدوث بعض التجاوزات والأخطاء القاتلة التي تجعل من بعض من يدخلون المستشفيات لأغراض تجميلية قد يخرجون منها جثثاً هامدة في دولة لا مجال فيها لمحاسبة المسؤولين، ويعمل فيها أطباء لا يملكون شهادات حقيقية دخلوا هذا المجال بهدف جني المال فحسب وبتوزيع المال على من يغضون بصرهم عن مخالفاتهم القانونية.

لا يمكن إلا أن يتقاطع هذا مع جرائم أزهق فيها أطباء آخرون أرواحاً في المستشفيات الحكومية لأنهم ثاروا ضد زعيم العصابة التي يؤيدونها ويهتفون باسمه، ولا يتوانى ذلك الزعيم الذي يصادف أن يكون طبيبا أيضاً أن يدمر سوريا بمعالمها الجمالية ويبيدها عن بكرة أبيها في سبيل استمرار سيطرته على الحكم.

في نظرة سريعة إلى صور المدينة التي نشأ فيها كل منا ندرك حجم الهوة الزمنية التي تفصل بيننا وبينها، وربما نحتاج للسفر عبر الزمن لنتمكن من ردم تلك الفجوة، لأنها ما نشاهده لم يعد يشبه تلك الصورة التي رافقتنا في نزوحنا الأخير منها.

لماذا إذاً ينفق العالم هذا المال كله من أجل تجميل المظهر في حين أن ما يحيط بينا من القباحة لا ينجح مال في تجميله؟

ندرك جيداً أن بلادنا اليوم لم تعد جميلة بالقدر الذي يمكّنها من إغوائنا للعودة، وبنظرة واحدة إلى صورها الملتقطة عبر الأقمار الصناعية نعرف أنه من غير الممكن أن تكون مقترنة بالتجميل الذي تزدهر صناعته فيها، ذلك أن هولاكو العصر ما زال يسكن فيها ويتحدث باسم شعبها ويستسيغ قتل أبنائها وتشريدهم وإخفاءهم واعتقالهم.

لماذا إذاً ينفق العالم هذا المال كله من أجل تجميل المظهر في حين أن ما يحيط بينا من القباحة  لا ينجح مال في تجميله؟ كيف يمكن أن ننجح في مواءمة هذا التناقض ونمنع أنفسنا من الوقوع في فخ المقارنة ومحاولة فهم الأحداث بطريقة لا تقودنا إلى الجنون ولا تجعل منا كافرين بالقيم والقضايا ويائسين من فكرة تحقيق العدالة؟

يبدو الحنين ترفاً لم يعد في متناول يدنا والأمل بالعودة أصبح صعب المنال هو الآخر، فالبلاد التي دمرها النظام اليوم مع شركائه من العالم لا تشبه البلاد التي نحلم بالعودة إليها حتى وإن أصبحت تحفة من الجمال الخارجي على الرغم من أنها ليست كذلك اليوم، وعلى الرغم من وجود مدن كاملة أصبحت أطلالاً لا تصلح اليوم سوى لكتابة الشعر والتغني بالحنين.