icon
التغطية الحية

"شم ولا تدوق".. الحلويات في سوريا تحت طائلة التقشّف والغلاء

2024.02.14 | 14:02 دمشق

حلويات دمشق
ارتفاع كبير في أسعار الحلويات بدمشق (تلفزيون سوريا)
+A
حجم الخط
-A

ترتبط الأجواء الشتوية عادةً بازدياد كمية الطعام المستهلك ولا سيما النشويات والسكريات، التي تمنح الجسم شيئاً من الطاقة والدفء لمقاومة البرد وتجاوزه مؤقتاً.

لكن فكرة شراء الحلويات بالنسبة إلى السوريين في مناطق سيطرة النظام أصبحت "مشروعاً" يستوجب حسابات مسبقة، بالقياس إلى الميزانية الشهرية وتدني الدخل والغلاء المعيشي.

الحلوانيون: إنتاج قليل وتغيير للمهنة

لم تنقطع صناعة الحلويات ولا سميا الشرقية (الحلو العربي) في العاصمة دمشق، سواء في فترة الأعياد أو في الأيام العادية، إذ لا يخلو شارع رئيسي من محل للحلويات الشرقية أو الغربية، لكنّ المبيعات في تناقص مستمر بسبب غلاء الأسعار.

وقد لجأ بعض العاملين في مجال الحلويات إلى امتهان أعمال أخرى نتيجة تبدلات الأسعار المستمرة وقلة المبيع وغياب الدعم "الحكومي" للحرفيين، إذ إنّ عدد الحرفيين العاملين فعلياً في صناعة الحلويات بمختلف أشكالها لا يتجاوز الـ300 حرفي من أصل 900 حرفي مسجل في "الجمعية الحرفية لصناعة البوظة الحلويات".

حلويات دمشق

وقد صرّح رئيس الجمعية بسام قلعجي أنَّ "أكثر من نصف الحرفيين توقّفوا عن الإنتاج وتحولوا إلى العمل في مهن أخرى بسبب الخسارة الكبيرة، فالأرباح لم تعد كافية لسد أجور العمال".

الحلويات "الشرقية" حُلم حقيقي

وبعد أن انقسم الناس في مناطق سيطرة النظام إلى طبقتين فقط؛ أي الطبقة الغنية والطبقة الأشد فقراً مع اضمحلال ما بينهما من طبقات، أصبح السوريون أمام خيار التضحية بمواد غذائية أساسية لبيوتهم من أجل شراء كيلو من المبرومة الذي يتراوح سعره بين 350 و385 ألف ليرة سوريّة، وهو رقم يعادل مرتّب الموظف الحكومي أو ضابط برتبة ملازم في جيش النظام.

صناعة مُكلفة جداً في سوريا

مع ارتفاع أسعار المواد الأولية لصناعة الحلويات مثل السكر والمكسرات والقشطة والطحين، لجأ بعض "الحلوانيين" في دمشق إلى تقليص كميات الإنتاج حتى لا تفسد أو تتعرض للكساد.

في لقاء لموقع تلفزيون سوريا مع أحد أصحاب محال الحلويات والنابلسية في منطقة باب سريجة وسط دمشق، أوضح أن بعض الأنواع مثل "الفستقية" وهي نوع من الحلويات المصنّعة من عجينة الفستق الحلبي والمحشوة بالقشطة، وصل سعر القطعة الواحدة منها إلى 15 ألف ليرة سورية.

حلويات دمشق

يقول (عامر): "ارتفع سعر كيلو الفستق الحلبي إلى نصف مليون ليرة سورية بينما وصل سعر كيلو القشطة إلى 60 ألف ليرة سورية للنوعية الجيدة؛ وارتفاع هاتين المادتين تحديداً إلى جانب غلاء السكر بصورة مستمرة حتى وصل إلى 16 ألف ليرة، تسبب بقفزة نوعية في الأسعار إلى جانب عدم استقرارها".

كلفة التبريد تُضاف إلى سعر المستهلك

يشتكي أصحاب معامل ومحال الحلويات -كما بقية السوريين- من غياب الكهرباء بصورة شبه تامة، الأمر الذي يعرّض ما يصنعونه للفساد وبالتالي خسارة ملايين الليرات السورية إذا لم يتخذوا احتياطات مسبقة لحل هذه المشكلة من دون أن يتأملوا خيراً بمنجزات حكومة النظام.

يتابع عامر حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا: "في البداية كانت لدي مولّدة كهربائية صغير الحجم لتشغيل البراد حتى لا تفسد الحلويات المحتوية على القشطة والبيض، لكن أزمة المحروقات غير المنتهية، إلى جانب الاستهلاك الكبير خلال اليوم؛ فالمولدة تستهلك قرابة اللتر من البنزين في أقل من ساعة، دفعني إلى التفكير بحل بديل، فقررت شراء براد يعمل على الأنفيرتر وبطاريات بسعات كبيرة لتشغيل البراد، الأمر الذي كلفني قبل 4 أشهر نحو 13 مليون ليرة سورية، وهو رقم كبير لكنه ضرورة حتى لا نخسر الرزق".

حلويات دمشق

وقد لجأت بعض المحال في منطقة الشعلان (سوق التنابل) وسط دمشق إلى تشغيل البرادات على المولدات الكهربائية الكبيرة "نظام الأمبيرات" بالاتفاق مع محال مجاورة؛ فركّبوا مولدة واحدة كبيرة لتشغيل 4 محال، وترتب على ذلك كلفة إضافية تتراوح بين 3 و4 ملايين ليرة سورية يدفعها كل محل شهرياً حسب الاستهلاك وعدد ساعات التشغيل وصرف المازوت.

وتضاف كلفة التبريد سواءً بالمولدات أو بالبطاريات إلى كلفة صناعة الكيلو الواحد من كل نوع حلويات، وبالتالي يزداد سعر البيع النهائي على المستهلك؛ فلا يوجد شيء مجاني.

الشراء بالقطعة "قضاءً للشهوة"

اعتاد السوريون خلال سنوات الحرب على شراء كل احتياجاتهم بمقدار ما يكفيهم لمرة واحدة أو مرتين على الأكثر، ولم يقتصر ذلك على شراء زيت الزيتون أو ربّ البندورة بأكياس صغيرة كافية لطبخة واحدة، بل أيضاً الحلويات أصبحت تُشترى بالقطعة أو بلقيمات معدودة كافية لتجاوز الرغبة في تناولها، حتى إن كانت غير كافية للاستمتاع به أو تحقيق الشبع منها؛ وهُم في حالة أقرب لفكرة "شم ولا تتذوق".

حلويات دمشق

أوضح عامر أن عدداً كبير من الناس باتوا يشترون الحلويات بالقطعة الواحدة من محله؛ إذ لم يعد غريباً أن يطلب أحدهم قطعة من المبرومة أو قطعة واحدة من الغريبة المحشوة بالقشطة التي وصل سعرها إلى 8 آلاف ليرة سورية أو حتى قطعة من الهريسة على صغر حجمها.

"الحلويات" من ضرورات الحياة الاجتماعية

يتحايل السوريون على صعوبات الحياة والضغوط اليومية بالاجتماع مع الأصدقاء بين الحين والآخر، وإن كان ذلك بأقل التكاليف.

وليس غريباً أن تمر بجانب أحد محال المخبوزات أو الحلويات وتشاهد ازدحاماً لمجموعة من الشبان والشابات الذين يشترون شيئاً يأكلونه في الشارع، كقطعة كيك أو قطعة من الشعيبيات، ولا سيما في أوقات البرد الذي لا يمكن التغلب عليه –بحكم العادة- إلا بالسكريات "احرق البرد بالحلو".

 

وخلال لقاء لـ موقع تلفزيون سوريا مع إحدى الشابات أمام محل حلويات "الوسام" في ساحة المحافظة وسط دمشق، أخبرتنا أن تناول الحلويات وشراء الوجبات السريعة (السناكات) أصبحت من ضرورات الحياة الاجتماعية بين الحين والآخر عند الاجتماع بالأصدقاء.

​   ​حلويات دمشق

تقول (لمى): "نتعامل مع أي لقاء اجتماعي على أنه رفاهية يمكن القيام بها في بداية الشهر ومع تسلُّم المرتبات، ولا نبالغ إذ نقول إنها بديل عن الإجازات والرحلات التي كنا نقوم بها سابقاً مع العائلة أو الأصدقاء، إذ إنّ كلفة "المشوار" وشراء صحن من النابلسية بـ 16 ألف ليرة سورية وتناوله في الشارع، أقل كلفة من السفر أو الذهاب إلى مطعم فخم، ولا سيما أن كلا الأمرين يحقق نفس النتيجة إذا ما كنا مع أشخاص نحبهم".

الحلويات الشرقية للتصدير

اعتاد المغتربون السوريون قبل الحرب، أن يأخذوا معهم علباً من الحلويات الشرقية ولا سيما المسمّاة بـ"النواشف"، كذكرى من بلدهم أو كهدية للأصدقاء في المُغترَب؛ خاصةً أن معامل تصنيع الحلويات الشرقية لم تكن موجودة في الدول الأوروبية، فيما عدا بعض المحال العائدة للمهاجرين.

أما الآن بعد أن أصبح معظم السوريين مغتربين ومهجّرين ولاجئين في شتى بقاع الأرض، ولا سيما في دول الخليج والدول الأوروبية؛ فقد بدأت صناعة الحلويات الدمشقية تكتسح هذه الدول سواءً بانتقال المصنّعين من كبار الحلوانيين إلى دول أخرى خلال سنوات الحرب وإعادة تأسيس معاملهم أو افتتاح فروع جديدة فيها مثل (السلطان ونبيل نفيسة وداوود إخوان وسوار الشام...) وغيرها.

حلويات دمشق

كذلك تلجأ بعض المعامل في دمشق وريفها إلى تصدير كميات من هذه الحلويات المغلفة والمحفوظة إلى أسواق الدول الأخرى عبر وكلائهم والتجار المتعاونين معهم، مع العلم بأنّ صلاحية الحلويات الشرقية تتراوح بين 2- 6 أشهر، الأمر الذي يسهل عملية تصديرها وحفظها.

ربّات المنزل يتنازلن عن الحلويات المنزلية أيضاً

لم تعد فكرة صنع الحلويات في المنزل أمراً في مقدور الأمهات السوريات سواءً للاستمتاع في إعدادها أو لإسعاد الأطفال ومكافأتهم بها، فأبسط أنواع الحلويات يحتاج حالياً إلى "ميزانية" إضافية، خاصّة أن كيلو الطحين وصل إلى 11 ألف ليرة سورية، وسعر البيضة الواحدة إلى 2500 ليرة سورية، فضلا عن بقية المواد مثل الكاكاو الخام والحليب والزيت النباتي أو الزبدة والمنكهات الأخرى.

وفي لقاء لـ موقع تلفزيون سوريا مع (أم عدي) وهي امرأة من سكان حي المهاجرين، تخبرنا أن إعداد قالب من الكيك بمكونات جيدة وغنية، يكلف قرابة الـ55 ألف ليرة سورية، دون حساب استهلاك الغاز لتشغيل الفرن.

وتضيف: "كنا نصنع الكيك في المنزل أسبوعياً لتحفيز الأولاد على الدراسة أو لتناوله مع القهوة صباحاً، أما الآن فلا قدرة لدي على صنعه إلا في الأعياد والمناسبات الكبيرة؛ إذ لا يمكنني الاستغناء عن المبلغ المخصص لإعداد طبخة للغداء من أجل قالب الكاتو! صرنا محتاجين إلى ترتيب الأولويات بهذه الطريقة وإقناع الأولاد بها دون تمنيات إضافية".

الحلويات المكشوفة.. أقل سعراً وأكثر ضرراً

لا تعد فكرة "عربات" الحلويات المكشوفة و"بسطات" الكيك طارئة على المجتمع السوري، إذ تعدّ مشروعاً جيد الربح بالنسبة إلى الكثير ودون عناء يذكر سوى التنقل من مكان إلى آخر من أجل بيعها؛ إذ يتم تصنيع "الصواني" في معامل الحلويات الكبيرة ضمن دمشق وريفها، ثم يتم توزيعها على الباعة الجوّالين أو على محال التجزئة.

ورغم أنّ أسعارها بالكيلو أو بالقطعة أقل من أسعارها في المحال الفخمة وسط دمشق، إلا أن الطريقة التي تُباع فيها دون تغطية أو تبريد وبقائها في الشمس لساعات طويلة؛ يجعل تناولها لا يخلو من المخاطرة، خاصّة تلك التي تحتوي على البيض أو الحليب ومشتقاته.

حلويات دمشق

تتحدّث "أم سلمان" (تعيش في منطقة دف الشوك) لـ موقع تلفزيون سوريا عن تعرض ابنها للتسمم –كما شخصه الأطباء- بعد تناوله الكيك من "بسطة" حلويات بالقرب من حديقة الزاهرة، تقول: "كان يلعب في الحديقة مع أصدقائه، وقد اشترى من إحدى البسطات قطعتين من الكيك؛ إذ تباع القطعة الواحدة بـ 2000 ليرة سورية، واضطررت إلى إسعافه إلى مشفى المجتهد بعد إصابته بإسهال متكرر لمدة يومين مع شحوب في الوجه وبرودة الأطراف".

يشار إلى أنّ كثيرا من هذه البسطات أو عربات الحلويات المتنقلة يعمل عليها أطفال بعد انتهاء دوامهم المدرسي، كمصدر للرزق ومساعدة الأهل.