سيرة المنبوذين أوسع من الهامش الضيق

2022.07.23 | 06:08 دمشق

الحجر الأسود
+A
حجم الخط
-A

يُنسَب الناس، في العموم الغالب، إلى أوطانهم أو أعراقهم أو أديانهم أو مدنهم أو حرفهم، إلا أن التضريس الجغرافي يطغى على كل ذلك في بعض الأحيان، كأن نقول الصعايدة والحوارنة والجولانيين والجزراويين... معبّرين باصطلاح مكاني عن هوية ثقافية واجتماعية تسكن مكانا بعينه بغض النظر عن أديانها أو أعراقها.

قد يأخذ التضريس الجغرافي وزنه التعريفي وبعده الدلالي في بناء المتصوَّر عن هوية جماعية (أكثر مما هي هوية اجتماعية وثقافية) من المفترض أنها مندمجة ضمن جغرافية سياسية يتساوى الجميع فيها قبولاً واحتراماً تحت سلطة القانون، فيحكم التضريس سكانه بصورة ذهنية أكثر نمطية وتعميماً من قبل الغير، ويحتاجون، مهما درجوا في مراتب العلم أو اشتغلوا في مجالات الأدب والفن، إلى جهد ذاتي لتغيير هذه الصورة. وقد تنجح الهوية الدينية وكذلك المدينية في الدفاع عن استحقاقات أبنائها أكثر من الجغرافية، فنجد التاريخ لا ينكر مساهماتهم في أحداثه وتحولاته بينما تتقلص سطوره عن المُعرَّفين بالتضاريس حيث يُدوَّن تاريخهم عادة من قبلهم هم، ويقتصر الاهتمام به على المستوى المحلي، فيتحول مع الزمن لذاكرة شعبية تبقى عرضة للتلاشي مع مرور الزمن وخصوصاً في ظروف الحروب والنكبات بوصفها انقطاعا أو ارتباكا في سلسة النقل الروائي بين جيل وجيل. الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر في التاريخ قريبه وبعيده. ذات مرة سألني شاعر صديق، وكان جادّاً: "ما الذي قدّمه الحوارنة للثقافة السورية؟"؛ هذا إنكار تغريبي نمطي على الرغم مما يوحي إليه من جهل.

في بعض الأحيان تتراكب الهوية نتيجة لظروف قاهرة، ولعل المثال الأكبر في سوريا كان في حالة النازحين من أصحاب الهوية الجغرافية (الجولانية) إذ أضيف لهم توصيف ثانوي كثيراً ما يطغى على الأساسي: النازحون، ثم أصبغت عليهم التسمية الإدارية للمكان ظلها، فأصبحوا: أبناء الحجر الأسود، أو جديدة الفضل، أو الحسينية، أو الذيابية ...إلخ. هذا التشتيت التوصيفي للمقصود ذاته يضعف قدرة الهوية الجزئية على الدفاع عن خصوصيتها أمام الهويات الأقوى التي تحاول تهميشها سواء في أطراف المدن أم في درك الاعتبار التحضري.

لعل بعض الهويات الجغرافية استطاعت الدفاع عن دورها في الثورة السورية، على سبيل المثال، وذلك لاستقرارها في مكانها التاريخي وما نتج عنه من تطور مدني وتحضري بحكم مرور الزمن من جهة أولى، وبحكم ثبوت مساهمتها البادئة للثورة ابتداراً وتضحية من جهة ثانية، وبحكم انتشار الإنترنت ووسائل التواصل ما حرر توثيق الحدث من يد السلطة وأصحاب النفوذ المادي والمعنوي. بذلك تمكّن المهمشون من الدفاع عن مساهمتهم في مواجهة السرد النمطي للقصة التاريخية. لكن هوية كهوية النازحين على سبيل المثال حوكمت بالصورة النمطية المأخوذة عنها كهوية مشتتة مطرودة من مكانها ومعرّفة بالهوامش، وقد انسحب هذا على كثير من الدراسات البحثية كما انطلى على المحاكمات الشعبية الأولى.

لم يلاق النشاط الثوري في الحجر الأسود وسواه من مناطق أبناء الجولان مديحاً شعبياً بقدر ما لاقت مناطق أخرى في محيط دمشق وفي سواها من المحافظات السورية، وتعرّض لحملة من الانتقادات في فترة العمل الثوري المسلح

لم يلاق النشاط الثوري في الحجر الأسود وسواه من مناطق أبناء الجولان مديحاً شعبياً بقدر ما لاقت مناطق أخرى في محيط دمشق وفي سواها من المحافظات السورية، وتعرّض لحملة من الانتقادات في فترة العمل الثوري المسلح رغم أن ما رافقه من تجاوزات لم يزد عن غيره من المناطق كالغوطة على سبيل المثال، حتى انتهى به الحال إلى شرعنة الهجوم والقضاء عليه من قبل الرابطة الإسلامية المتشكلة في جنوبي دمشق وكان من بين صفوفها داعش وجبهة النصرة آنذاك. انطلى ذلك على عموم الناس وخصوصهم في المنطقة إلى أن اتضحت الصورة حول رغبة السيطرة كدافع للتشكيلات الإسلامية في عملياتها المشابهة على غرار ما حصل في الغوطة الشرقية. لم يؤد ذلك إلى إنصاف أبناء هذه المناطق حتى لو على مستوى الضمير الشعبي العام، بل وُسِموا أو اتُّهموا لاحقاً بالداعشية في بلدات جنوبي دمشق التي نزحوا إليها هرباً من داعش نفسها التي سيطرت على الحجر الأسود بعد أن فشلت القوى المسلحة في القضاء عليها، وعانوا في تلك البلدات من نبذ لا يقل عن نبذهم من قبل المجتمع إبان نزوحهم من الجولان بعد حرب الـ67.

هذا الحكم المستند إلى نمطية موروثة تضيّع القصة الحقيقية للثورة في الحجر الأسود والقدم والعسالي والحسينية والذيابية...إلخ وتلغي ثلاث سنوات قدّمت فيها هذه المناطق تضحيات جمة وارتكب فيها النظام السوري جرائم حرب كثيرة، وتختصر قصتها في المرحلة التي سيطرت فيها داعش على الحجر الأسود (منتصف عام 2015) على الرغم من أن عدداً ليس بالقليل من أبناء الجولان قُتل على يد داعش حينذاك. يصر النظام السوري على هذه الرواية لأنها تؤكد سرديته بأن الثورة كانت منذ بدايتها نواءات لقوى متطرفة، وتلغي جزءاً مهماً من فصول إجرامه بحق المناطق السكنية، وتبرِّئه من تصفية قضية الجولان المحتل بقتل النارحين منه وتهجيرهم (يصح هذا الكلام على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين).

بقيت منطقة الحجر الأسود كخرائب تدل على مرحلة مشتبكة الروايات حول حرب دامت ثماني سنوات، يتلو النظام روايته عنها بتشدّق دون أن يكذِّبه أحد، وإمعاناً منه في تغيير الحقيقة وتضليل مُقتفي آثارها يؤجّر الحجر الأسود كأستوديوهات لتصوير فيلم صيني جديد من إنتاج شركة مملوكة للمثل الصيني الشهير جاكي شان. كثير من التقارير التلفزيونية التي تحدثت عن الموضوع لم يتطرق إلى قصة الحجر الأسود إلا من الزاوية ذاتها، على أنه المنطقة المدمرة بعد خروج داعش منها عقب معارك دامية بينها وبين النظام السوري، مختصرين الحجر الأسود بأنه (أحد معاقل داعش في سوريا)، ومصدرين النظام على أنه قوة مجابهة لداعش. تثير تعليقات السوريين الموجودين في المكان العجب فهم يتحدثون عن المدن المبادة والمهدمة كنوع من أنواع السياحة السينمائية تجذب شركات الإنتاج التي يكلفها تجهيز مواقع تصوير حقيقية كهذه ملايين الدولارات! بينما لم تكلف النظام السوري وحلفاءه إلا براميل متفجرة وصواريخ وكثيرا من القتلى والمهجرين وتصفية قضية الجولان المحتل.

ليس التصوير في مناطق مدمرة بعد حرب خطأ بالعموم، ولكنه يصبح كذلك إذا انسجم مع رواية المجرمين كما فعلت بعض الأعمال السورية، وحين يتجاوز مأساة أصحاب المكان ليطرح غيرها. نذكر أفلاماً أنتجت عن العراق ولكنها صُوّرت في المغرب مثلاً، رغم أن بعضها كاد ينصف العراق بتكذيب الرواية الأميركية عن وجود أسلحة دمار شامل فيه كفيلم المنطقة الخضراء. أما التي صُوّرت منها في العراق (كفيلم النمر والثلج) حاولت أن تنصف العراقيين بعض الشيء دون استخدام مكان مأساتهم كمجرد أستوديو.

ما زالت أرواح الضحايا في الحجر الأسود تحوم بين البيوت المهدمة هناك، وأصوات الهتافات الأولى في مظاهرات 2011 وحرائق القذائف التي كانت تسقط على الحجر الأسود في وقت مبكر (قبل سيطرة داعش عليه بسنوات) ما زالت شاخصة في ذاكرة الناجين، ومن الإجحاف بحق السوريين وتاريخهم أن ينقص من حقيقة قصتهم شيء، والمستفيد الوحيد من هذا التحوير هو النظام السوري الذي صارت تصفه شخصيات مريبة في المعارضة السورية بـ(حكومة الجمهورية العربية السورية)!

 

.