ماذا يكتب الخائفون من الطرد

2022.09.26 | 06:57 دمشق

ماذا يكتب الخائفون من الطرد
+A
حجم الخط
-A

تكتظ المواقع الإلكترونية والصحف بآلاف المقالات يومياً، كما تطبع وتوزع دور النشر عشرات وربما مئات الكتب شهرياً، حتى إنه ليشق على القاصد أن يحيط بحركة الكتابة والنشر، وربما صار يشق اقتفاء الجدير بالقراءة منها، وإهمال ما هو دون ذلك، وهو الكثير الغالب. ولعل إثبات ذلك هيّن بمطالعة صباحية للمواقع الإلكترونية الرائجة ذات الاختصاص. وليس هذا المراد، لكنه السؤال: ما دوافعنا (نحن السوريين وإخوتنا من منكوبي الربيع العربي) للكتابة؟

لعلها محاولة للإعاضة عن حالة الهزيمة والعجز التي نعيشها، أو انفجار إبداعي تالي للصدمة كشكل من أشكال إثبات الذات المسحوقة، فقد ربطت دراسات نفسية وسلوكية بين الصدمة والقدرة الإبداعية، وخلصت بعضها إلى اتقاد الذكاء اللفظي بعد الصدمة. لم تشتمل الدوافع التي أوردها جورج أورويل في مقالته (لماذا أكتب) على هذا الدافع، إذ اختصرها بأربعة دوافع: حب الذات الصرف الذي ينم عن أنانية الكاتب "علي القول إن الكتاب الجادين هم أكثر اختيالاً وأنانية، لكنهم أقل من الصحفيين اهتماماً بالمال". الحماس الجمالي للّغة والمفردات "لا يوجد كتاب [مهما كان رديئاً] يخلو من الاعتبارات الجمالية". الحافز التاريخي الذي يعني اكتشاف الحقيقة وتوريثها للأجيال. الهدف السياسي بما يعنيه من دفع للمجتمع باتجاه معين، وبرأيه "لا يخلو كتاب من التحيز السياسي، والرأي القائل بأن الفن ينبغي ألا يربطه شيء بالسياسة هو بحد ذاته موقف سياسي".

ما هي رؤيتنا نحن ورثة هزائم القرن العشرين ونظرياته المنهارة، الناجين مصادفة –إن صح تعبير ناجين- من أقبية المخابرات ومن تحت ركام المدن المهدمة، المطرودين من بلادنا ومن أي مدينة نصل إليها؟

تتقاطع رؤية جورج أورويل مع رؤية مارك توين في الدافع الأول (حب الذات الصرف)، ورغم أن توين في كتابه (ما هو الإنسان؟) جعله السبب الوحيد ليس للكتابة فقط بل لأي فعل إنساني، إلا أنه لم يتطرف في توصيفه فسماه (الدافع الذاتي). وقد يكون إيجابياً أو سلبياً، ويتم تطويعه بالتدريب ويؤثر فيه المزاج ونزعة السيطرة. ينسجم ما راحا إليه كلٌّ مع بيئته وظروفه، فالأول ابن الإمبراطورية الآخذة بالأفول، والثاني ابن الدولة العظمى الصاعدة حيث مناجم الذهب البكر والأراضي الشاسعة. بتعبير رشيق يجمع جورج أورويل بعض كتب مارك توين حول ثيمة مركزية: "هكذا يتصرف البشر عندما لا يكونون خائفين من الطرد". فما هي رؤيتنا نحن ورثة هزائم القرن العشرين ونظرياته المنهارة، الناجين مصادفة –إن صح تعبير ناجين- من أقبية المخابرات ومن تحت ركام المدن المهدمة، المطرودين من بلادنا ومن أي مدينة نصل إليها؟

ربما سقطت كل الدوافع آنفة الذكر من اعتباراتنا؛ نحن نحاول عصرها حتى آخر قطرة. هذا يفسر القدرة على كتابة نص عاطفي بين حين وآخر، لكنه سيكون مشوباً بالضرورة بمفردات العجز والهزيمة والحرمان وأحياناً الجنون. فيتحول الحافز الجمالي إلى عكاز متهتك من نسيج الألفاظ الجميلة. وينقلب الحافز التاريخي من الجهد لاكتشاف الحقيقة إلى نقيضه في الاستسلام لسهولة المنقول المتوارث، فيودي إما إلى نكوص نحو الماضي وعكوف عن الآتي أو إلى التحلل من الهوية والانحلال في غيرها. وينحسر الهدف السياسي في تحليل الهزيمة ومطّها زمانياً حتى تصبح متاهة لا يمكن الخروج منها. إننا مفلسون من دوافع الكتابة جميعها، إلا دافعاً واحداً يعبّر عن نفسه في ثيمة مركزية: هكذا يتصرف البشر حين يكونون خائفين من الطرد.

إنها النجاة، بغريزيتها المجردة، وكفاحها المقامر للوصول إلى الضفة الأخرى، حيث ينجلي كفاح جديد لنجاة أخرى. بما يمكن أن نسميه: غريزة النجاة الفردية الصرفة. من هنا يمكننا أن نفهم شاعراً يكتب قصيدة حب، ونشيطاً على وسائل التواصل الاجتماعي يلقي نكاته، ويوتيوبراً يحكي عن الطعام في جزر الكناري، وأصدقاء يشاركون صورتهم الشاطئية الجماعية على الإنستغرام، في الظرف الذي تنهال فيه قنابل الطائرات على الأهالي في سوريا أو فلسطين.. شيء ما في دواخلنا يحس بهذا الفصام الجماعي فيصرخ: "لا يجوز"، لكننا نتفاعل معهم ونصفّق لهم، لأنهم ببساطة يشعلون فتيل الأمل لنجاتنا، ذلك الفتيل الذي ينطفئ قبل النوم، ونبحث كل صباح عن أحد يشعله من جديد.

لو لم نكن كذلك كنا كتبنا بمداد البحار عن خيانة الإخوة والأصدقاء، وعن فساد المؤسسات وانحراف البنادق وانتهاك الحيوات والملكيات وخيانة المسؤولين

في رده على النقاد حول كتابه عن الحرب الأهلية الإسبانية (تحية إلى كاتولونيا) قال أورويل: "يحدث بأنني أعرف بأن رجالاً أبرياء كانوا يُتهمون زوراً، لو لم أغضب لذلك ما كان ينبغي لي كتابة هذا الكتاب أبداً". هذا كلام في غاية النبل، ينحسر دافع (حب الذات الصرف) عنه للحد الأقصى، لكن الكثيرين منا –الناجين من بلادنا مصادفة- لا يجرؤون على مثل هذا، لأننا ببساطة خائفون من الطرد. لو لم نكن كذلك كنا كتبنا بمداد البحار عن خيانة الإخوة والأصدقاء، وعن فساد المؤسسات وانحراف البنادق وانتهاك الحيوات والملكيات وخيانة المسؤولين، ولكانت ألسنتنا أكثر فصاحة وبياناً في الحديث عن عري العراة الذين أصبحوا أولي أمرنا رغماً عنا. لكننا مع الأسف محكومون بغريزة النجاة الفردية الصرفة، فنحن نخاف من طعنات السكاكين المباغتة والمشاعل التي تُلقى ليلاً من نوافذ البيوت، ومن الطرد الذي يلاحقنا احتماله في أماكن العمل ومحطات المواصلات والساحات العامة.