سوف نحرق البلد

2023.07.19 | 07:09 دمشق

حريق سوق ساروجة
+A
حجم الخط
-A

قبل نحو عشرة أيام انتشر مقطع مصور على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه رئيس النظام السوري بشار الأسد برفقة زوجته أسماء وهما يتجولان من دون مرافقة في حي من أحياء دمشق القديمة، قيل وقتها إنه حي ساروجة أحد أقدم أحياء دمشق (أول حي يبنى خارج السور في القرن الثالث عشر الميلادي).

وهو الحي الوحيد الذي بقي محافظا على هوية سكانه الذين يقطنونه، ويعمل معظمهم في التجارة، حيث يشتهر الحي بسوقه القديم، حتى إنه سمي منذ وقت طويل باسم (سوق ساروجة). ويحوي الحي مجموعة كبيرة من المباني الأثرية، منها المدرسة الشامية البرانية، وجامع الورد وحمام الورد وقصر يوسف الأثري وهو قصر تعود ملكيته إلى السيد عبد الرحمن باشا اليوسف أمير الحج الدمشقي، ويعرف القصر أنه أول منزل تم تجهيزه بالكهرباء في دمشق عام 1907، ويتميز بطرازه المعماري الفريد وزخارفه البديعة ( القصر هجر منذ زمن وترك للصوص يسرقون ما أتيح لهم من آثاره، وتم الكشف عن محاولات عديدة للبحث عن كنز قديم يقال إن صاحب القصر كان يملكه واحتفظ به في مكان سري في القصر ما جعل اللصوص يستبيحون القصر المهمل ويحفرون فيه ويكسرون أرضياته وجدرانه بحثاً عن هذا الكنز).

كما يوجد بالقرب من سوق ساروجة منزل خالد العظم (رئيس الوزراء السوري قبل انقلاب البعث) الذي خصص أحد أقسامه ليكون مكانا لحفظ وثائق مدينة دمشق والغوطة ومتحف دمشق ( يشاع أن هذه الوثائق تم نقلها قبل مدة إلى مكان مجهول).

ويمتد الحي ليتصل بحي العمارة ( سوق الهال القديم) الشهير وهو أحد أقدم أحياء دمشق ويقع بالقرب من الجامع الأموي، كما أنه الحي الذي كانت تتفرع منه أبواب دمشق القديمة كلها، ويتميز حي العمارة بأبنيته الأثرية الفاخرة (البيوت الدمشقية العريقة) حيث أرض الديار التي تحيط بها الغرف الكبيرة وتتوسطها (الفسقية) أو نافورة المياه البيتية؛ وتشتهر هذه البيوت بطابعها المعماري الشرقي وبزخارفها الإسلامية المميزة، ولعل أشهرها المكتبة الظاهرية والعادلية الكبرى (مَجمع اللغة العربية)، ومنزل الأمير عبد القادر الجزائري؛ ومن حي العمارة يمكن للسائر أن يدخل كل أحياء دمشق القديمة الشهيرة بأبنيتها الجميلة والتي سجل كثير منها سابقا تحت صفة أثر تاريخي وإنساني.

يحكي أهل دمشق القديمة وسكانها أنهم منذ سنوات يتعرضون للضغط من أجل بيع أملاكهم وعقاراتهم وأحيائهم، لكنهم يرفضون ذلك متمسكين بهويتهم وخصوصية أحيائهم ومجتمعاتهم الصغيرة وعاداتهم وتقاليدهم؛ هذا الرفض الشديد والتمنع عن البيع جعل كثيرا من السوريين يفسر ظاهرة الحرائق المتواترة في دمشق القديمة بأنها متعمدة وتتم بفعل فاعل، حيث التهمت الحرائق قبلا محالّ ومبانيَ قديمة في سوق الهال، وقبله اشتعلت النيران في سوق المناخلية القريب من سوق الهال، كما نتذكر جميعا الحريق الكبير في حي الشاغور، وكثيرا من الحرائق المماثلة التي طالت أسواق وأحياء دمشق القديمة؛ واللافت أن كل تلك الحرائق كانت تحدث في الفجر (لا يمكن التذرع بارتفاع درجات الحرارة فمناخ دمشق في الفجر عادة ما يتميز بالطراوة).

وبعد التحقيقات في أسباب هذه الحرائق كان يعلن أنها حدثت بسبب ماس كهربائي؛ وهو ما يرفضه سرا سكان هذه الأحياء حيث يقولون إنه لا توجد مشكلة في التمديدات الكهربائية في محالهم وممتلكاتهم.

كما أن دمشق (كغيرها من مدن سوريا) تشهد منذ سنوات شحا في التيار الكهربائي وانقطاعا طويلا له خصوصا في ساعات الفجر ما يجعل من نظرية الماس الكهربائي ذريعة واهية وتحاول التغطية على السبب الحقيقي وراء تلك الحرائق وهو محاولة الضغط على سكان دمشق القديمة للرضوخ وبيع ممتلكاتهم للتجار الجدد الذين يعودون بالصلة إلى إيران في محاولة امتلاكها لكل أحياء دمشق القديمة وفرض نموذجها على تلك الأحياء بقصد تغيير معالمها وتغيير ديموغرافيتها وثقافتها المجتمعية وهويتها المذهبية وطمس كل التفاصيل التي تذكر بدمشق ( الأموية) العريقة بصلة.

ويندرج الحريق الهائل الأخير الذي حدث قبل أيام قليلة في سوق ساروجة وامتد إلى حي العمارة ضمن المخطط نفسه. إذ يتحدث أهالي ساروجة عن محاولات عديدة للضغط عليهم لبيع عقاراتهم، وعن تهديدات تصلهم منذ مدة للرضوخ والبيع والمغادرة. يتحدثون أيضا عن مخططات لاستبدال بيوت دمشق القديمة وأحيائها بأبراج وعمارات لا هوية لها ولا تمت للنظام المعماري الدمشقي بصلة، لكنها في الميزان التجاري سوف تحقق أرباحا هائلة لمالكيها، والأهم هو أنها سوف تقضي على الذاكرة البصرية لدمشق القديمة بكل ما يميزها من عراقة تاريخية ومجتمعية جعلت دمشق تصمد في وجه كل محاولات تغييرها من المحتلين الكثر الذين مروا عليها.

لكن، على ما يقول الدمشقيون الآن: إن ما يتعرض له سكان دمشق القديمة اليوم من ضغط يجعل الصمود صعبا، خصوصا مع الحرائق المتواصلة لأحيائهم وأسواقهم. (في حريق سوق الهال قبل سنوات قليلة كانت هناك خسائر في الأرواح إضافة إلى الخسائر المادية المهولة). وكأن امتصاص الغضب والنقمة الذي اعتاده الدمشقيون حفاظا على حياتهم ورزقهم ضد من يسبب لهم الأذى لا يكفي تجار الحروب والدم وبرابرة هذا العصر السوري المليء بالفظائع، وكأن على الدمشقيين أن يثوروا، كغيرهم، كي تقوم الطائرات والبراميل المتفجرة بدك أحيائهم فوق رؤوسهم، كما حدث مع جيرانهم، سكان الغوطة، وباقي المحافظات السورية. لكن عادة سكان دمشق القديمة في الصمت في أثناء مرور العواصف الهوجاء في انتظار مرورها وعودة حياتهم إلى طبيعتها، لم تنفعهم مع البرابرة الجدد، الذين لا يملكون أي رادع أخلاقي أو قيمي أو إنساني أمام مصالحهم ومخططاتهم وأحلامهم.

ما الذي كان يفعله بشار الأسد وزوجته قبل أيام في الأحياء نفسها التي شهدت الحريق الأخير؟ ما من شيء يحدث عفويا في سوريا حاليا، لا يمكن وضع هذه الزيارة قبل الحريق بأنها مصادفة؛ هل كان الاثنان يريدان التأكد من أن الحريق سوف يسير على ما يخطط له؟ أم كانا يريدان الظهور في تلك الأحياء ليؤكدا أنهما يحظيان بمحبة الدمشقيين وأنهما يملكان المشاعر نفسها تجاه دمشق القديمة وسكانها، ما يبعد أي شبهة حول مسؤوليتهما أو معرفتهما بالحريق المقبل؟

تقول الأحداث التي حصلت خلال العقد الماضي، إنه ما من شيء يحدث في سوريا لا دور للرئاسة السورية به، كل ما يحدث يرتبط بشكل ما ببشار الأسد وزوجته وشقيقه ماهر، حتى التحالفات مع روسيا وإيران، حتى بيع البلد وتأجير مرافقها الحيوية، واحتكارات رؤوس الأموال الجديدة والمشاريع المتعلقة بإعادة الإعمار، كلها تعود بالصلة إلى عائلة الأسد؛ واهم من يظن غير ذلك، وواهم من يعتقد أنه بالصمت سوف يتجنب المصير الذي طال غالبية السوريين خلال العقد الماضي. الأسد ونحرق البلد، هذا هو شعار سوريا الحالية، سوريا المفيدة لتجار الدم والحرب والمخدرات، سوريا الفاجرة مع أبنائها ومحبيها الحقيقيين.