سوريا والبحث عن مفهوم المواطنة

2023.06.20 | 19:24 دمشق

سوريا والبحث عن مفهوم المواطنة
+A
حجم الخط
-A

تعد المواطنة من المفاهيم التي تختلف التفسيرات حولها، والتي تتغير معانيها ومدلولاتها بتغير الظروف التاريخية والثقافية والسياسية للمجتمعات؛ ورغم ما يعتري المواطنة من تحولات، يبقى جوهرها الذي يتناول الحقوق والواجبات السياسية ثابتاً، تماماً كما تشكل ثنائية "الحاكم والمحكوم" جوهر السلطة السياسية بغض النظر عن شكل السلطة، أو طبيعتها، أو حتى شرعيتها.

يعتمد الوجود الحقيقي للمواطنة على تهيئة مناخ سياسي ديمقراطي يتميز بتقدير التنوع، واحترام الاختلاف، وتشجيع الحوار، وتعزيز قيم الانتماء الوطني، والحرية، والكرامة، والعدالة، والمساواة أمام القانون، وإعلاء القيم الدستورية، بما يضمن قيام حياة سياسية مستقرة؛ وإذا اتفقنا أن الحقوق والواجبات السياسية هي المشترك الوحيد بين تجارب الدول في تطبيق مفهوم المواطنة، فلا بد أن ندرك أن تلك التجارب فريدة من حيث التفاصيل، ولا تشبه بعضها كثيراً، فسويسرا ليست أميرِكا، وكندا لا تشبه ألمانيا؛ كما أن هذه النماذج التي نعايشها اليوم تختلف عن سابقاتها التاريخية اختلافاً جذرياً، ففي أثينا -مثلاً- التي تعتبر مهد الديمقراطية يخبرنا إبراهيم أبراش في كتابه "تاريخ الفكر السياسي" أن ما يجعلك مواطناً حراً، ويمنحك حق المشاركة السياسية حينئذ، هو أن تكون ذكراً، تبلغ من العمر عشرين عاماً، لأبوين أصليين فقط؛ ولا ريب أننا لو تفحصنا تجارب المواطنة المعاصرة واحدة تلو أخرى، فلن نجد دولة مهما انخفضت مؤشرات الديمقراطية فيها، تنهج نهج أثينا في تهميش الدور السياسي للمرأة، أو تمنع مشاركة بعض مواطنيها لاعتبارات عرقية، أو دينية، أو طائفية؛ لكن يبقى هنالك تساؤل حول كيفية تحديد الحقوق والواجبات في الدول حديثة النشأة، أو تلك التي تشهد تحولاً سياسياً، وما الذي يضمن أن تكون جلية واضحة للجميع، وفي منأى عن كل اعتداء، لا تنتهكها ممارسات تعسفية، أو تعبث بها نزوات سلطوية؟!

نود -قبل الإجابة- أن نبين موقعنا من الإعراب كسوريين، وأن نحدد موضعنا بالنسبة للمواطنة مفهوماً وممارسةً؛ تؤكد السردية التاريخية أن ملامح الدولة السورية الحديثة بدأت بالظهور مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، لكن توغل القوات الفرنسية في دمشق 1920م، لم يكتب لسوريا ككيان جديد فرصة كافية لتنشأ بصورة طبيعية، ورغم الجهود السياسية التي بذلها السوريون الوطنيون في نضالهم ضد الفرنسيين من أجل الاستقلال، لم ينجحوا في جعل الحياة السياسية في سوريا تأخذ شكلاً واضح المعالم، إذ كانت لفرنسا اليد العليا في رفض أو إلغاء أو تعطيل أي مواد دستورية يمكن أن تمس دورها، وحتى حين نالت سوريا استقلالها، لم تمض أربع سنوات حتى عصفت بالبلاد سلسلة انقلابات عسكرية دموية خنقت التجربة السياسية، وكانت خسارة آخر الأوراق عندما قبلت الأحزاب السياسية -على نحو يثير الدهشة والاستغراب- حل نفسها نزولاً عند شروط جمال عبد الناصر للوحدة مع مصر، والتي انتهت بانفصالٍ حدث عام 1961م، تلاه سنة 1963م تغول البعث على السلطة، ونَسْفُ كلِّ جهد سياسي بذله السوريون في الفترة السابقة.

في آذار 2011م، شكل الانفجار الشعبي الجماهيري منعطفاً تاريخياً في حياة السوريين، ولأن الثورات هي آخر خيار تلجأ إليه الشعوب بعد أن تصطدم مراراً بتعنت الديكتاتوريات ورفضها للتغيير، كانت الثورة السورية دليلاً إضافياً يؤكد -إلى جانب الحقائق التاريخية- انعدام مظاهر الحياة السياسية في سوريا بشكل مطلق؛ وينبهنا -في الوقت ذاته- إلى أن مناقشة المفاهيم الجزئية في ظل غياب سياق عام يجمعها معاً، ليست إلا مضيعة للوقت، فما فائدة السجال حول مبدأ احترام القانون إذا كان الدستور عرضة للعبث في أي لحظة، وما جدوى مناقشاتنا حول المواطنة وغيرها من المفاهيم إذا كنا نفتقد إلى أدنى مقومات وجود حياة سياسية!

نصل إذا إلى حقيقة مفادها أن العمل لتهيئة بيئة سياسية تتيح لنا أن نعيش هذه المفاهيم بشكل واقعي، وتسمح لنا أن نطورها من خلال تجربتنا، هو أمر من الأولويات السياسية الملحة؛ وربما يساعدنا في تحسين ظروفنا لخلق بيئة عمل سياسي، أن نسعى لتكريس ثقافة التكامل والتعاون واحترام التنوع والاختلاف، وإطلاق الحملات التي تهدف إلى تعزيز ثقافة المواطنين بأساسيات حقوقهم، والتشجيع على المشاركة في الأنشطة السياسية المتنوعة، وتعزيز دور المجتمع المدني، والتفاعل مع هيئاته وكياناته المتنوعة لرسم الخطوط الأولية لحياتنا السياسية في سوريا المستقبل، فعظمة الثورة السورية تكمن في أنها منحتنا فرصة نادرة لصياغة عقد سياسي-اجتماعي واضح المعالم، عندما رفعت شعارها "ثورتنا، ثورة لكل السوريين" وفتحت المجال أمامنا لنبدأ محاولة خاصة، جديدة، وفريدة، في تشكيل مفاهيمنا السياسية بالاعتماد على إرثنا السياسي الوطني، وتجاربنا التي لم يكتب لها أن تكتمل، وهامش المرحلة، وإرادتنا مع ما نملك من أدوات وإمكانيات متاحة؛ لكننا ما نزال إلى يومنا هذا نعيش صراعاً مع ذواتنا، فلا نتفق من نحن، وما هي محددات هويتنا الوطنية، ولا ندرك أن تعثرنا -أو حتى مجرد التباطؤ- في الوصول إلى صيغة توافق فيما بيننا حول ذلك، لن يكون في صالحنا على الإطلاق، بل ربما يكلفنا كثيرا.