سوريا السائلة تحت شمس آب

2023.08.21 | 05:49 دمشق

آخر تحديث: 21.08.2023 | 05:49 دمشق

سوريا السائلة تحت شمس آب
+A
حجم الخط
-A

قبل عدة أشهر، عندما رجع بشار الأسد من مشاركته في القمة العربية بجدة، مثلاً، بدا أن سلطته، والسلطات السورية الأخرى، ثابتة ومرشحة لمزيد من التدعيم. غير أن وقتاً قصيراً مرّ قبل أن تهتز سلطات الجميع، بأشكال مختلفة، لتتأكد مدى هشاشة الاستقرار الذي تُبديه.

ربما من الطريف هنا استحضار بعض أوصاف وتعبيرات زيجمونت باومان، عالم الاجتماع البولندي الإنكليزي، في سلسلة كتبه عن الحالة السائلة، رغم ما قد ينطوي عليه ذلك من خفة نظرية. ففي حالة «خلوّ العرش» تحتل المشهد مكوناتٌ مرنة قابلة للاستبعاد، تتحرك في حالة من الترقب والحذر الدائمين بسبب إمكانية تغييرها دوماً عندما تنتهي مدة صلاحيتها القصيرة، في لعبة كراسي موسيقية تهدد بخطر الاستبدال.

وسيتضح معنى هذا الكلام باستعراض مفاصل من شهر آب.

ففي التاسع منه بثت قناة سكاي نيوز عربية لقاء قصيراً أجرته مع بشار الأسد استطاع فيه، بتسديد مدهش، إطلاق النار على مستقبل الانفتاح العربي، والتقارب التركي، والأهم على الآمال التي تولدت لدى مؤيديه وسكان مناطقه بالانفراج بأموال إعادة الإعمار. خاصة أن هذه الأشهر القليلة شهدت تراجعاً تاريخياً في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وما أعقب ذلك من انهيار في القدرة الشرائية، لم تنفع معها مضاعفة الرواتب الحكومية في 15 آب، التي ترافقت مع رفع الدعم عن المحروقات وجنون الأسعار.

مناطق النظام تغلي، ولا سيما منها تلك التي تستطيع أن تعرف ارتفاعاً محدوداً في درجات الحرارة الكلامية من دون أن تُتهم فوراً بالعمالة والخيانة، أي مناطق الساحل المشهود لها بالولاء فعلياً. غير أن شبح الجوع، أو الجوع نفسه لا شبحه، بات حاضراً بقوة، فضلاً عن صعوبات حادة في الخدمات.

لكن ما يلاحظ على جميعها هو «التوجه الإصلاحي» بدرجات متفاوتة، والنفور من ثورة 2011 والتبرؤ من أن تكون هذه الأصوات استئنافاً لها

وقد تجلى الدُوار الذي أصاب الناس بأشكال مضطربة ومتخبطة يصعب ضبطها في عنوان مشترك، من معبّرين عن التذمر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في فيديوهات اشتهرت بسرعة، إلى حركات سرية تطالب بما هو أكثر جذرية. لكن ما يلاحظ على جميعها هو «التوجه الإصلاحي» بدرجات متفاوتة، والنفور من ثورة 2011 والتبرؤ من أن تكون هذه الأصوات استئنافاً لها، إلى درجة دعوة عناصر الجيش والقوى الأمنية إلى المشاركة في العصيان المدني. وهو مما لم يعد يخطر في بال أحد من ضحاياهم.

عند هذه البؤر الاحتجاجية رغبة دائمة في التأكيد على وطنيتها، وهاجس بنفي أي علاقة لها مع «الخارج» الذي يبدو شيطانياً، يبدأ بأميركا وإسرائيل وينتهي بإيران وروسيا اللتين فقدتا التقدير العاطفي الشعبي كحليف بما أنهما لم تمدّا يد العون المفترض الآن. إذ تؤمن هذه الأصوات، ومن ورائها شارع موال عريض، أن لدى هاتين الدولتين القدرة على تقديم مساعدات جدية تغيّر الحال.

لا بل إن هذا الشارع يعتقد أن القضاء التام على الفساد، ومصادرة أموال المسؤولين الفاسدين و«تجار الأزمة»، أمور كفيلة بإنقاذ الموقف. على الرغم من أن متطلبات الدولة أكبر بكثير من أن تسددها أموال الفساد لو نهضت النية لمحاسبته. لكن هذه القناعة غير موجودة لدى المتذمرين الذين يضخمون من حجم الفساد للحفاظ على أمل وطريق للحل. وعندما يصل الجائعون إلى حقيقة أن بشار الأسد غير قادر على حل المشكلات المستفحلة، أو غير راغب بسبب «مستشاريه» المتلاعبين، سينفجر الوضع بطريقة أو بأخرى.

في إدلب، الخضراء كما صارت التسمية الثابتة ذات الوظيفة الأيديولوجية، كان أبو محمد الجولاني يبني «كيانه السنّي» بيدٍ من أمن وأصابع من استقرار وجباية وخدمات. مقدّماً ما أطلق عليه جهازه الإعلامي «نموذج إدلب» الذي يطمح في تمدده إلى مناطق محررة ليست تحت هيمنته. غير أن الأشهر الثلاثة الأخيرة حملت له احتجاجات عنيدة يقف وراءها «حزب التحرير» الإسلامي من دون أن تنحصر فيه. وقد أدّت تجاوزات جهازه الأمني إلى توسع دائرة الاعتراض.

ومن جهة أخرى أصابت هذا الجهاز، وهيئة تحرير الشام كلها، فضيحة بدأت باكتشاف خلايا عميلة للتحالف الدولي، وقيل للنظام وروسيا. حاولت الهيئة التقليل من أهمية الأمر حتى وصلت خيوط التحقيقات إلى أبي مارية القحطاني، أحد من يحملون صفة «الرجل الثاني» في الجماعة السائلة تنظيمياً بشكل يخدم دوام سيطرة رجلها الأول.

حاولت الهيئة مجدداً التستر على هذه الأخبار التي سرّبها خصومها، غير أنها اضطرت، في نهاية الأمر، إلى إصدار بيان ملطّف، في 17 آب، قالت فيه إنها جمّدت مهام القحطاني وصلاحياته، لأنه «أخطأ في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل». في حل وسط بين كتلتين ربما تهددان بانفراط وحدة التنظيم.

والحق أن القحطاني كان رجل «تواصلات» أكثر من أي شيء آخر. وهو أحد أبرز من يُنسب إليهم الدور في تمدد الهيئة إلى مناطق «غصن الزيتون» و«درع الفرات»، الخاضعتين للحكومة المؤقتة والجيش الوطني والنفوذ التركي. وذلك عبر أحلاف من تحت الطاولة أو بيعات سرية. وقد تجلى هذا بوضوح، قبل أشهر، مع حليفين غريبين هما «فرقة السلطان سليمان شاه» و«فرقة الحمزة» من فصائل الجيش الوطني.

غير أن اليوم نفسه الذي حمل بيان الهيئة بشأن القحطاني، نقل من وراء الأطلسي قرار وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على قائدي هذين الفصيلين، محمد الجاسم (أبو عمشة) وسيف بولاد (أبو بكر).

من المحتمل أن يؤدي هذا الوضع إلى طيّ صفحة قائدي الفصيلين المذكورين على المدى المتوسط لئلا تتمدد العقوبات، التي سبق أن طالت أحمد الهايس (أبو حاتم شقرا) قائد فصيل «أحرار الشرقية»

وقد حشد أبو عمشة، على وجه الخصوص، أوسع ما استطاعه من احتجاجات عشائرية وشعبية و«رسمية» على القرار، متهماً مصدريه بالتسييس وبالوقوع تحت تأثير تقارير إعلامية مغلوطة وبالكيل بمكيالين. لكن هذا النوع من ردات الفعل ليس مما يؤثر في صانعي هكذا قرار ولا ينمّ عن فهم لآليات اتخاذه.

ومن المحتمل أن يؤدي هذا الوضع إلى طيّ صفحة قائدي الفصيلين المذكورين على المدى المتوسط لئلا تتمدد العقوبات، التي سبق أن طالت أحمد الهايس (أبو حاتم شقرا) قائد فصيل «أحرار الشرقية» والذي قيل إنه شريك أبو عمشة. وكذلك جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور) القيادي في الهيئة، جديل القحطاني في التغلغل في المناطق الأخرى.

ما يقوله آب، الذي لم ينته بعد، إنه ما زال من المبكر الحديث عن لاعبين نهائيين في الصراع السوري وعن طاولة مفاوضات أخيرة لأمراء حرب راسخين. فكل ما يجري حتى الآن هش عابر قابل للذوبان، بحسب تعابير نيومان.