icon
التغطية الحية

"ساعة الذئب" لـ عيسى الصيادي.. مسكوكاتٌ عن الخوف والموت في سوريا "الأسد"

2021.08.07 | 18:44 دمشق

ysy_alsyady-_tlfzywn_swrya.png
فوز الفارس
+A
حجم الخط
-A

"ساعة الذئب" كتابٌ صدر حديثاً للشاعر والمسرحي السوري عيسى الصيّادي عن دار "موزاييك" للدراسات والنشر، وهو عبارة عن مجموعة من النصوص، أطلق عليها كاتبها اسم "المسكوكات"؛ إذ أقدم على تدوينها في أثناء خدمته العسكريّة سرًّا على الورق قبل أن يحشرها داخل ماسورة مياه معدنيّة، وحرص على إبقائها خفيّة وبعيدةً عن الأعين في محيطٍ يفتقر إلى أدنى درجات الخصوصية والإنسانيّة معًا.

و"ساعة الذئب" تجربة فريدة من نوعها لشابّ سوريّ سيق إلى الخدمة الإلزاميّة قبيل الثورة بفترة قصيرة، وقد تكون أوّل تجربة تغطّي الضفّة الأخرى للحرب؛ فالكاتب امتحن الحرب بنفسه وانهمك بالكتابة عنها مغلّبًا الطابع الشخصيّ، وموقفه من الحرب التي وجد نفسه طرفًا فيها، وشعوره تجاه الأحداث التي تدور في محيطٍ متوحّش.

 وللفرار من هذا المحيط الذي يجردّه من عقله وإنسانيّته يومًا بعد يوم يلجأ إلى الكتابة؛ الكتابة تحت الضغط العالي كما أطلق عليهاـ من دونِ وعيٍ كافٍ لهذه الكتابة، لا على مستوى الشكل والقالب والجنس الأدبيّ لها، ولا حتّى الغاية من تدوينها، إلّا أنّه يتنفّس الحريّة من خلالها؛ بل يجد نفسه مرغمًا عليها خوفًا من أن يفسد عقله.

داخل مؤسسة الجيش

يوضّح الناشر أنّ فرادة هذا الكتاب تتأتّى من التداخل الأجناسي العالي فيه، واللغة الشعرية والوصف السّردي والحكمة المتجذّرة؛ جمعها الكاتب في قالب المسكوك الذي يعرّي به منظومة القهر والفساد في سوريا، كما يرى أنّ "ساعة الذئب" قد تكون أوّل تجربة تغطّي لنا حقيقة ما كان يجري داخل الجيش خلال الحرب من منظور جنديّ معارض.

قد تبدو لنا المسكوكات للوهلة الأولى نصوصًا متفرّقة؛ بسبب بعض الفجوات الزمانية والمكانية، إلّا أنّنا بعد القراءة المتأنيّة نستطيع أن نلتقط الخيط السرديّ الناظم لها، هذا الخيط الذي يبدأ من السجن الذي حُشر الكاتب فيه، تمهيدًا لزجّه مع بقيّة المتخلّفين أمثاله في أتون الخدمة الإلزاميّة، وفي السجن (الكواليس الخلفيّة للبلاد) كما أطلق عليها الكاتب يتمّ نزع الأغلفة الآدميّة لأصحابها، وحقنهم بموادّ حافظة للولاء، وفيها أيضًا يتدرّج الإنسان إلى مرتبة الحيوان بعد أن تُسلخ آدميته عنه كما يُسلخ جلد الحيوان، عند ذلك فقط يصبح خليقًا بالدفاع عن وطنه؛ سوريا الأسد (مزرعة الضيغم) التي هي مجموعة أشلاء شعب وجيفة خالدة!

الزنزانة

لا نستطيع في هذه القراءة الموجزة أنّ نلمّ بجميع المحطّات الموجودة في "ساعة الذئب"، لكننّا سنحاول الإشارة إلى أهمّها؛ المحطة الأولى التي تبدأ من السجن، في أثناء العبور الأوّل للزنزانة الذي جعله يشعر بأنّه قُلب من الداخل، ليصبح الخارج داخلًا مثل المعطف، فيلجأ لتدوين عباراتٍ مقتضبة يربطها بالصّور الشيئيّة أمامه، وحين تتراءى له تلك اللوحة البائسة على جدار السجن المكوّنة من الصدأ والدهان المقشور؛ يقرأ في تلك اللوحة مصير البلاد وأبنائها، فتكون اللوحة بمنزلة النبوءة التي تلخّص ما سيجري في البلاد من خلال أمّ سوريّة تنظر عاليًا، وترخي جبّتها مطلقةً أبناءها ليبحثوا عن عقدٍ لهم انفرطت حبّاته وغاصت في الطّين:

"في زاوية مرحاض السجن القذرة، عند طرف بابه الأيسر لوحةٌ تشكيليّةٌ من الصدأ، كأنّها أمّ ترخي أطفالها الثلاثة من جبّتها، وتنظر لزاوية المشبك الحديديّ لكوّة السجن العالية، ينسدل شالها خلفها تدفعه الريح، مع بعضٍ من أوراق وأحذية صغيرة، تطوف حولها... من نظرتها تلك ونظرة أطفالها تحت، كتبتُ هذه المسكوكات، على خلفيّة تنقيطٍ لماسورة المياه... أنا مدينٌ لتلك اللوحة البائسة، واللوحات التي انعقدت بها عناقيد الرؤية، لوحة الدهان المقشور في زاوية المعتقل؛ أشجارٌ ضخمة مُورقة جانب نهرٍ متعرّج، حوله تطوف عائلةٌ تبحثُ عن عقدٍ لها، عقد لؤلؤيّ أسفل اللوحة بمتر وربع، لم تعثر عليه إلى الآن".

بعد الفرز

بُعيد التخرّج من تلك السجون المتعاقبة بـ ليسانس إذعان، ينطلق الكاتب مع بقيّة السجناء إلى جحيمٍ آخر؛ مثل حشراتٍ تهرب من ركنٍ إلى آخر في بيتٍ يحترق، تستطيع أن تشمّ الخوف من الياقات في بوابة (تجمّع النبك للأغرار) وهم ينتظرون لحظة الفرز بتوجّس وقلق، ليكون مصير الكاتب كليّة الدفاع الجويّ التي يبدأ فيها جحيمٌ من نوعٍ آخر، يظهر لنا هلعه عقب فقدانه جزءًا من المسكوكات التي حشرها في ماسورةٍ معدنية استولى عليها قائد السريّة ليستكمل بها صناعة الهيكل المعدنيّ لعريشته الفتيّة:

"أن تكون قاتلًا مقاتلًا؛ القتل الذي ينوسُ بين الارتباك والتجربة، بين أنا وأنا الأخرى، وشخصيّة إلكترونيّة، كنتُ أدقّ الورق الناعم بعد أن أنفث عليه في ماسورةٍ معدنيّةٍ للمياه، كانت من الطرف الآخر محكمةً بلجام، وضعتُ سدادةً خشبيّةً وقمتُ بربطِ خيطٍ كي يتسنّى لي استخراج ما نفحتهُ من روحي المعذّبة... لكنّ الآلة تعطّلت في بلدٍ جعل من الأدب مسكوكًا في المعدن الضيّق، كحشوةٍ ضوئيّةٍ لضرسٍ عفنة، منهوكة ومتهالكة، ملتهبَ عصب الكآبة، اليوم بحثتُ عن الماسورة ولم أجدها، أسفل السّرير، اختفت مثل كلّ شيءٍ كتبته فيها، كان خوفًا مزدوجًا من ظهور ما أكتبُهُ للعلن، ومن فقدانها".

بين السلاح والبلاد

بعد تلك الحادثة ينتقل إلى التدوين سرًّا على الواتس، يضيف نفسه ويكتبُ لها، يسجّل صوته في الزوايا المقفرة وظلال الأسلحة الكبيرة، لا يُعنى الكاتب بوصف الأحداث، ولا ينقل لنا حواراتٍ مع الأشخاص الموجودين في محيطه، وإنّما نقرأ انعكاسات الحياة الجديدة المتوحّشة في نفسه، من خلال حديثٍ طويلٍ متواصلٍ مع النفس، يجعل من المسكوكات شبيهةً بمنولوجٍ داخليّ، بل هي أطول منولوجٍ داخليّ قد يقدم عليه إنسانُ ما؛ منولوج غُرست حوافّه ومفارقه بالألم؛ الألم لحال البلاد التي تسقط على يد أبنائها، والألم من شخصه وقد حمل سلاحًا ليشارك في سقوطها: "تتكئ على السلاح... على يديكَ تسقط البلاد".

قصف الديار

يبلغ الكاتب ذروة الألم حين يبدأ القصف على مدينته التي رفضت التسوية، فهبّ حماة الديار لدكّها وتقطيع أوصالها وسحقها

يبلغ الكاتب ذروة الألم حين يبدأ القصف على مدينته التي رفضت التسوية، فهبّ حماة الديار لدكّها وتقطيع أوصالها وسحقها، وهو في خندق الحرب يحفر ويدشّمُ ويحمل الحجارة الداعمة له، يسأل نفسه التي تمعن في اغترابها عن الضفّة الأخرى: "كيف تلاقي أهلك وأصدقاءك وأنت تقوم بكلّ هذا؟" وحين يلتفّ شريط الأخبار العاجلة الأحمر على رقبته بخبر قصف مدينته تزداد غربته، ويشعر بأنّه كمن يطبق أجفانه على الخراب، ينظر إلى بندقيته المصوّبة على أهله، يرقب نيران القصف من المقاطع المسرّبة، مستذكرًا تفاصيل الأماكن، ثمّ يحجم عن تقصّي الأخبار وينقطع عن التواصل مع المحيط: "داخلي طفلٌ يركض في بيتٍ مهجورٍ يجأرُ كأنّه وحشٌ مفقوء العيون.. بهذا العدم الذي لا يمكن التعبير عنه، لا أحد ينتظرني هناك سوى شبحي الوحيد الذي خلعتُه في باحة المدرسة الابتدائيّة، في النشيد الجماعيّ لجرس (الحلّة) وفي رصف الأحذية على رفوف الجامع الكبير، وفي نشرِ الأرغفة السّاخنة من الفرن... يا وجهي البعيد... يا شبحي هناك... من يحملني إلى البيت؟ حيثُ الروح روحي، والأغنية أغنيتي التي بها أنام".

الغوطة والكيماوي

يبلغ الألم مداه المجدي حين تقُصفُ الغوطة بالأسلحة الكيماويّة المحرّمة دوليًا، وتبدو الضربة الكيماوية له انتصارًا باهظًا بلا شفقة، يتوقّف طويلًا عند صور الأطفال، تلك الصّور التي فرّقت الجنود من حوله بين واجمٍ وشامت، فالأطفال يقعون تحت يديّ جزّارين مهرة، والغطاء الرّوسي واسع الذمّة، يغطّي نصف العالم، يتساءل بعض الجنود الشامتين: "هل من الممكن ضرب مناطق المعارضة كافّةً" يسأل الكاتب نفسه: كيف تتمّ الشماتة؟ ليصل إلى نتيجةٍ مفادها: "أنّنا -مجرّدون من نظامٍ وثورة- قد هُزمنا أمام أنفسنا، وأنّ الشرف ضيف شرف على فلزّات المعدن الأصيل"، ثمّ يعرّج على التهجير الذي آلت إليه الغوطة التي نالت العلامة الثوريّة الكاملة؛ إذ أقدم النظام على قصفها بالأسلحة المحرّمة دوليًّا، وحاصر أهلها، وارتكب فيها المجزرة تلوَ الأخرى، يتساءل: "ماذا عساك تقول لأمّهات الغوطة؟" يشتُمُ الحرب التي تجبره على إجراء مقابلةٍ مع القدر كلّ يوم؛ محتضنًا خاتمة البلاد بيأسين متعاقبين؛ اليأس الطّازج على أثير العواقب المتتالية، واليأس من نفسه بُعيدَ محاولة انشقاقٍ فاشلة، لينتهي الأمر به مصابًا على سرير في المشفى 601.

مشفى 601 العسكري

يتحدّث الكاتب عن إصابته في المسكوك المعنون بـ "ساعة الذئب" والذي اختاره عنوانًا للكتاب؛ إذ تشكّل تلك الإصابة لحظة فارقةً ومصيريّة في وعي الكاتب، إنّها ولادة جديدة من رحم الألم والقهر، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى تلك الأسطورة المعروفة بـ (ساعة الذئب) وهي الوقت بين الليل والفجر، إنّها الساعة التي نكون فيها في أوهن حالاتنا نفسيًّا وجسديًّا، وهي الساعة التي يموت فيها معظم الناس وفيها يُولدون.

فوق سريره في المشفى 601 يدرك الكاتب أنّ حياته عطلة انتصافيّة بين عدمين؛ لينهي الجزء الأوّل من كتابه بمسكوك (الموت الصغير) وفيه يخاطب الموت ويواجهه بوصفه ندًّا وصديقًا عتيقًا، ينفض في جعبته كلّ آلامه ومخاوفه، ويحاول إغراءه بنفسه ليأخذه إليه:

"أيّها الموت! أتبحثُ عن لا أحد؟ هل لكَ عينان عسليّتان وشعر خرنوبيّ وجبهة عريضة قليلًا وأنف حاد؟ عن قصدٍ دسستُ صورتي في جيبك، وأنتَ تتحسّس الوجوه في العتمة، وجهيَ الأعمق عتمةً، يا زميل السلاح، يا رفيق الدورة، يا نديمَ الصّاعقة، يا خازن السلطان، يا أخي، نحن من عائلةٍ واحدةٍ بعمقِ الأيّام الريفية، تفرّقنا قشًّا، أنفاسي القديمة قربَ جرحٍ ملتهبٍ في الجبين، تلمّسهُ: تدعوكَ لعناقٍ طويل".

في النهاية؛ لابدّ لنا أن نشير إلى دور المدوّنات الشخصيّة للجند والمشاركين في القتال في تقديم صورةٍ حيّة ومؤثّرة لطبيعة الحروب، وما تثيره من مشاعر وتداعيات لدى المشاركين فيها، ولعلّ ما صرّح به صموئيل هاينز صاحب كتاب (حكاية الجند) ينطبق على المسكوكات ودافع صاحبها إلى تدوينها: "إنّ الإنسان لا يمتلكُ في مواجهة تجارب ساحقة تقرب من الإبادة وتسلبه كلّ حولٍ وقوّة؛ إلّا سلاح التوثيق وسيلةً يحافظ بها على كرامته، ويستعيدُ زمام المبادرة لفعلِ شيءٍ يتحدّى به استهانة الحروب بوجوده الفرديّ والإنسانيّ".