icon
التغطية الحية

"حكايات" سوريا الأسد

2021.02.21 | 10:44 دمشق

sam.jpg
عمّار المأمون
+A
حجم الخط
-A

نَقرأ في كتاب (الأسد أو نحرق البلد) للصحفي سام داغر العديد من "الحكايات" و"الشهادات" التي جمعها واقتبسها داغر على لسان أشخاص مختلفين سواء كانوا من دائرة الأسد الصغيرة أو من معارضيه الذين ينتمون للشعب، إذ نقرأ أحياناً جملاً وكلمات نُطقت في أعلى الهرم، تلك المساحة السريّة التي من الصعب اختراقها والمتمثلة بالأسد الأب أو الأبن ومن هم حوله، كقول بشار الأسد "هذا الشعب لا يحكم إلا والحذاء فوق رأسه"، هذا الاقتباس المباشر يعكس بدقة ما يحاول داغر أن يقوله في الكتاب، والذي يتضح في العنوان الفرعيّ للكتاب: "كيف دُمِرَت سوريا بسبب رغبة أسرة واحدة بالسلطة". 

يشير داغر في بداية الكتاب إلى أن المخابرات في سوريا تلعب دوراً وسيطاً بين "القصر" والناس، هذا الدور يتمثل بترسيخ "الحكاية"، أي ضبط ما يقوله الناس، والتأكّد من موافقته للحكاية الرسميّة، هذه "الرقابة" على الحكايات نقرأ عنها مثالاً واضحاً على لسان الفنان التشكيلي خالد الخاني، الذي يصف طفولته في حماة بالجحيم، ويخبرنا كيف تعرض للضرب من قبل مسؤولي حزب العبث في المدرسة حين سئل كيف مات أبوه، إذ لم يكن جوابه "الإرهابيين الإسلاميين" كما هو متفق عليه، بل أجاب أن الجيش قتل أباه، وانتهى اللقاء بـ"فعوسة" الخاني من قبل هؤلاء المسؤولين إلى أن سحبه المدير من تحت جزماتهم.

ما يثير الاهتمام في الكتاب أننا نقرأ حكاية "أسرة" وصراع بين عائلات في سوريا، فداغر الذي اعتمد كما أشار في المقدمة على عدد من اللقاءات مع مناف طلاس بعد انشقاقه عن النظام ينقل لنا بـ"الحرف" ما كان يحدث داخل القصر وخارجه، وهذا ما نلاحظه في مقدمة الكتاب حين التعريف بالفاعلين أو الساردين هناك من هم في "داخل القصر- آل الأسد، ومن هم في الخارج- الشعب/ الناشطين. 

أسرة الأسد

يستمر هذا التمييز ضمن الكتاب، لكن الملفت للانتباه أن داغر يوظف عبارات مثل أسرة الأسد، أسرة طلاس، طائفة الأسد، بما يشر إلى أننا لا نتعامل مع دولة، بل مع أسرة تحكم مساحات جغرافيّة مختلفة، تتعامل مع قاطنيها كمريدين ومحبّين، لا كمواطنين، ومن يحاول المطالبة بشيء ما فسيسحق. 

الداخل، أو داخل القصر هو أكثر ما يثير الاهتمام في الكتاب، إذ نقرأ "حكاية" الأسد منذ الستينات حتى عام 2015 ، ونتعرف إلى أسرة الأسد كأشخاص وصلوا للسلطة مصادفة ورفضوا الاستغناء عنها، يستمر الأمر حتى عام 2011 وكيفية تعامل الرئيس- الوريث مع المظاهرات في سوريا، المثير للاهتمام في هذا الداخل، هو الإشارات التي نقرأها عن هرمية القرار الذي ينتقل شفهياً وهمساً، ونتعرف أيضاً إلى "تناقض" القرارات أو الأوامر التي يطلقها بشار الأسد ، وهذا ما حصل مثلاً في درعا قال بشار الأسد لمناف طلاس بأن الصلح والحوار هو الحل، لكنه أمر في ذات الوقت جميل الحسن بمهاجمة المتظاهرين.

أكثر ما يثير الرعب في الكتاب ما نقرؤه عن الطائفيّة، أو أن الصراع طائفي بالنسبة لأسرة الأسد، فالقتل قائم على أساس الخوف والاختلاف طائفي، و هو الأمر الذي يصعب إنكاره بعد قراءة الكتاب والاطلاع على الهمسات والأحاديث السرية التي يتم تداولها، خصوصاً أن سوريا مقسمة إلى قطع طائفية مسؤول عنها شخص محدد، فأوج الصراع بين مناف والأسد كان يخص الرستن، المدينة التي ينتسب إليها "آل طلاس" و حين اندلاع المظاهرات فيها كان موقف طلاس بأنها "عنده، هو يحلها" لكن الأسد تجاهله وأمر بشن الهجوم عليها.

هذا المنطق الذي نقرؤه عن "داخل القصر" ويتجلى في عبارات على لسان أصحاب القرار يثير الرعب كون المحاولات النظرية والأكاديميّة لفهم النظام كدولة أو مؤسسة تبدو ساخرة أو هزيلة، لأن النظام -إن كان فعلاً كما هو مذكور في الكتاب- أشبه بمافيا ذات واجهة قانونيّة، تحاول ضبط الرعية والموضوعات بالعنف فقط، والحفاظ على ولاء "الأسر" التي تعمل معها،  خصوصاً أن الكذب الممارس من قبل رئيس النظام سواء حافظ أو بشار على مدى فترة حكم الاثنين هو القاعدة الأهم، إذ يشير الدبلوماسيون الذين يقتبس منهم داغر أنه لا يمكن تصديق الأسد فيما يقولها، هو قادر على الكذب دوماً وجهاً لوجه دون أن يرف له جفن، يقول شيء و يفعل الآخر، لا فقط فيما يخص السياسة الخارجيّة، بل فيما يخص الداخل أيضاً، فـ"الصدق" يظهر فقط ضمن الطائفة والولاء المطلق، أما الآخرون فكلهم مهددون بالتصفيّة.

لا يحاول الكتاب تبرئة مناف طلاس أو أسرته، إذ يشار إلى بعض العمليات التي قام بها الحرس الجمهوري الذي يترأسه مناف طلاس دون الغوص فيها، لكن اللافت أيضاً هو هوس الجميع/ بمن فيهم "آل الأسد"، بصورتهم العامة و كيفية رؤية الناس لهم، و هنا تظهر "الحكاية" مرة أخرى،  كل ما نعرفه عن الأسد قابل للتشكيك، كل الحكايات تحوي أكاذيب وتلاعب ما يفعل السينيكيّة (الكلبية) وعدم التصديق،  وهنا يطرح سؤال بحثي عن الأسدين وطبيعة سيادتهما، هل هما قادة كارزماتيكيون ؟أم مجرد مدراء؟ أم قادة أبديون؟.

خارج القصر

كل واحدة من هذه الافتراضات تعني أسلوباً لقراءة نظام الحكم في سوريا ومحركاته، وهنا تأتي أهمية الحكايات من "خارج" القصر التي يرويها لنا داغر، الشهادات الشخصية والقصص القادمة من الذاكرة و تلك الخفية وراء الأبواب لتحدّي النظام ونزع القناع عن الأسد، لكشف حقيقته أو بصورة أخرى تقدم تاريخ حكائي بديلاً لذلك الرسمي، تاريخ على لسان "الشعب" لا مرجعية له سوى "الخبرة الحيّة" لمن شهدوا الواقع.

الكتاب هو أشبه برحلة طويلة في "الكلام" خصوصاً أن الكثير من الحكايات والاقتباسات التي نقرؤها تمتلك بعضها صيغة الـanecdote، تلك التي لا يمكن التأكد من مصداقيتها إلا عبر "تصديق" ناطقيها، ولا نحاول هنا التشكيك في محتويات الكتاب، لكن هذا المكون "الحكائي" يدفعنا للعديد من الأسئلة عن أسلوب السرد، والترجمة من العربية إلى الإنكليزيّة، والأهم بعض المكونات التي نعرفها. 

إحدى الحكايات في الكتاب سمعتها شخصياً من ذات المصدر المذكور في الكتاب، النسخة التي أعرفها تتطابق مع مكوناتها في تلك المكتوبة، لكن هناك إضافات ونبرة و أسلوب يغير من وقعها وأسلوب تلقيها، أي لا يوجد ما يهدد جديّتها ولا حقيقتها بل صيغتها الحكائيّة، لا أمتلك وصفاً دقيقاً للموضوع، لكن أن نسمع الحكاية مرتين، يعني أننا نستمع لحكاية جديدة في كلّ مرة، خصوصاً أن الكثير من الحكايات في الكتاب لم تقدم كشهادات رسمية، بل بقيت أسيرة المشافهة والاقتباسات و المقابلات، وهنا  أخطر أثر لنظام الأسد، وهو الأبديّة، تلك التي تهدد الحقيقة والحكايات نفسها، و تجعل مكوناتها مجرد "حكايات" قد تُنسى بل ويمكن حرمان الكثيرين من إعادتها أو إنجاز تتماتها بسبب "رقابة الأمن" التي ما زالت مستمرة حتى الآن، لنرى أنفسنا أمام "تواريخ" لسوريا الأسد، لا تاريخ واحد ولا قراءة واحدة قادرة على التفسير أو توزيع اللوم.