رفض العلمانية.. ظاهرة عربية أم إسلامية؟

2022.04.21 | 06:17 دمشق

521d5da5-923a-4f7d-84b9-68ecf87385f6.jpg
+A
حجم الخط
-A

يجادل هذا المقال بأن الرفض الواسع للعلمانية في الثقافة السياسية العربية المعاصرة ظاهرة تخص النخب العربية الإسلامية فقط وليس لها علاقة بباقي مسلمي العالم. إذ تشير توجهات الأحزاب الإسلامية العالمية إلى أن غالبية تلك الأحزاب الإسلامية غير العربية تأخذ بالعلمانية كطريقة لضمان حياد الدولة تجاه مختلف الأديان والمذاهب، ولتحقيق المساواة السياسية بين الجميع، ولا تجد ذلك التعارض الذي يقول به العرب بين الإسلام والعلمانية.

أما دليلنا على هذه المحاججة فهو أن غالبية المسلمين في العالم يأخذون بالعلمانية، من حيث هي نظام يضمن حيادية الدولة تجاه الأديان، وعدم تدخلها في الشؤون الدينية للناس، ولا تسمح لرجال الدين بأن يستخدموا الدولة لأغراض دينية، ولذلك تعتمد تلك الأحزاب الاحتكام للديمقراطية والانتخابات.

ونحن سنتناول تجربة ثلاثة تجمعات إسلامية كبيرة غير عربية في العالم تأخذ بالعلمانية ولا تشعر بأي تعارض بين الإسلام والعلمانية، بل إنها تتبنى العلمانية بطريقة نضالية، في بعض الأحيان، لأنها تعتبر العلمانية إحدى الضمانات الأساسية حتى لا تتدخل الدولة في شؤون المؤسسات الإسلامية والأحوال الشخصية للمسلمين، أو لضمان مساواتها مع المكونات الدينية الأخرى (الهند). مثلما أن تبنيها للنموذج العلماني المدني لم يؤثر على إسلاميتها، لا من قريب ولا من بعيد، لأنها بقيت محتفظة بهويتها وتقاليدها الإسلامية بشكل طبيعي. وهذه التجمعات هي الهند، وتركيا وأندونيسيا.

في الهند هناك نحو 200 مليون مسلم (يشكلون نحو 15% من سكان البلاد تقريبا)، ودستور الهند يؤكد بوضوح أنها دولة علمانية. الأحزاب التي تمثل مسلمي الهند تعمل في السياسة على هذا الأساس وتدعم العلمانية لأنها تعتبرها ضمانة للأقلية المسلمة، خاصة في ظل وجود أحزاب هندوسية ذات توجه متطرف.

يعتقد بعض مسلمي الهند أنهم يعانون من بعض التهميش وأن تمثيلهم في البرلمان أقل من عددهم، ولكنهم لا يفكرون إلا بالعلمانية كطريق لتحقيق مزيد من حقوقهم

المعادلة العلمانية التي يدافع عنها مسلمو الهند أن العلمانية تعني مساواة الجميع أمام الدولة، وأنه ليس لأتباع دين معيّن صدر المجلس، وأن أتباع النهج العلماني يقلل من مخاوفهم بضياع حقوقهم وشخصيتهم الإسلامية. وقد تمكن المسلمون في الهند، انطلاقا من هذا النهج، من الوصول إلى منصب رئيس الهند، أكثر من مرة، وإن لم يتمكنوا من الوصول إلى منصب رئيس الوزراء، وهو المنصب الأهم في الهند. ما زال يعتقد بعض مسلمي الهند أنهم يعانون من بعض التهميش وأن تمثيلهم في البرلمان أقل من عددهم، ولكنهم لا يفكرون إلا بالعلمانية كطريق لتحقيق مزيد من حقوقهم، ومن دون العلمانية قد يفتح الباب للعنف والعنصرية، التي على أية حال، عانى منها مسلمو الهند منذ منتصف القرن الماضي.

أما في تركيا (نحو 85 مليون غالبيتهم يدينون بالإسلام) والتي يعيش فيها – أيضا- ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري، فإن دستورها يقول إنها جمهورية علمانية تقوم على: معايير الحضارة المعاصرة، والسيادة المطلقة لإرادة الأمة التركية، والديمقراطية المطلقة، وفصل السلطات، وحق المواطن التركي في العدل الاجتماعي. والغالبية المطلقة من المسلمين الأتراك يؤمنون بالعلمانية، حتى إن الأحزاب ذات التوجه الإسلامي هي أيضا أحزاب علمانية ولا تجد أي تعارض بين العلمانية والإسلام، بل تجد في العلمانية أداة لحماية الحياة السياسية من تسلط العسكر. يذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نصح الرئيس المصري السابق محمد مرسي (قبل الانقلاب عليه من قبل عبد الفتاح السيسي) في زيارة له لمصر بأن تتبنى حركة الإخوان المسلمين المصرية العلمانية حتى تنجح في إدارة البلاد وتمثل جميع المصريين.  

أما أندونيسيا وهي أكبر دولة إسلامية في العالم (230 مليون/ 88% مسلمون) فقد أصبحت دولة ديمقراطية بعد عام 1998 إثر هبة شعبية أطاحت بالرئيس سوهارتو. وقد تشكلت أحزاب إسلامية عديدة فيها، ودخل عدد لا بأس منها البرلمان، وهي في غالبيتها أحزاب تؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والحياة السياسية المدنية، حتى إن البرلمان الأندونيسي رفض عام 2001 أن يضمّن الشريعة الإسلامية في الدستور مكتفيا بوجود محاكم خاصة تدير الأحوال الشخصية للمسلمين. أما الدستور الذي أقر، وشاركت فيه الأحزاب الإسلامية، ذات الأغلبية في البرلمان، فيقول إن أندونيسيا دولة مستقلة قائمة على "الإيمان بالله الوحد الأحد"، و"الإنسانية العادلة"، وقيم الديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية.

بقي أن نشير إلى أن المفكر العربي عزمي بشارة يشير في مؤلفه الضخم الدين والعلمانية إلى أن العلمانية لم تكن مطلباً للقوى العلمانية فقط، بل إن القوى الدينية طالبت أيضا بالعلمانية – تاريخيا – وذلك لحماية نفسها من سطوة الدولة والملوك، وهو أمر لا يدركه كثير من المعادين للعلمانية، ولا حتى غلاة العلمانية العرب، بل إن العلمانية هي التي أنهت ما كان سائدا من أعراف سياسية وقوانين تجعل الناس على دين ملوكها في أوروبا العصور الوسطى، وهي قضية لا يمكن التوسع بها في هذا المقام.

ما نريد قوله في نهاية المقال ثلاث قضايا أساسية، نعتبرها بديهيات في العمل السياسي، على السوريين التنبه إليها:

أولا – ليس هناك أي تأثير للعلمانية على هوية المسلمين وتعاليم الدين الإسلامي، بدليل أن الغالبية العظمى في تركيا وأندونيسيا ومسلمي الهند هي علمانية، ومع ذلك فإن الإسلام عامر في قلوبهم وفاعل في حياتهم الخاصة، والحياة الاجتماعية العامة.   

الثانية - أنه لا يمكن الفصل بين الديمقراطية والعلمانية، إذ لا يمكن أن تكون ديمقراطيا وتؤمن بالعدالة والمساواة للجميع أمام القانون والدولة دون أن تكون علمانيا.

الثالثة - أن العلمانية هي علمانيات في العالم وليست علمانية واحدة. فالعلمانية التركية تختلف عن العلمانية الأميركية، والعلمانية الفرنسية تختلف عن العلمانية الإسلامية الهندية. وهذا يعني أن العلمانية تراعي الأوضاع الخاصة للشعوب والأديان.

الرابعة – أن عداوة العلمانيين العرب للإسلاميين عداوة مزيفة، مثلها مثل عداوة الإسلاميين للعلمانية، نابعة من تضخم الانشغال بالنقاش النخبوي الذي قدّم مسألة العلمانية للتهرب من الديمقراطية، وهو تكتيك مارسته الأنظمة العربية العلمانية والإسلامية على حدٍ سواء، وذلك لوجود مصلحة مشتركة بينهم في هذه النقطة. ثم سارت النخب العلمانيون والإسلاميون العربية في هذا الطريق. وهو يعكس إحدى المشكلات الكبرى للنخب العربية، السورية وغير السورية.

علمانية البعث الأسدي هي مفهوم بلا معنى، كما تقول الفلسفات الوضعية، مثله مثل مفاهيم الوحدة والحرية الأسدية

ما نريد أن نختم به أن العلمانية الحقيقة وجدت من أجل أن تحمي الأديان من الطغاة الذين يتاجرون بعواطف الناس الدينية، ولو كانت هناك علمانية حقيقية في سوريا، أي علمانية على أسس ديمقراطية لما تمكن آل الأسد من تسخير مؤسسات الإفتاء والأوقاف لمصالحهم الشخصية، ولما تمكنوا من اللعب بالورقة الطائفية التي أحرقت سوريا من درعا حتى القامشلي.  

بقي أن نقول إنه على غلاة العلمانيين السوريين أن يدركوا أن علمانية البعث الأسدي هي مفهوم بلا معنى، كما تقول الفلسفات الوضعية، مثله مثل مفاهيم الوحدة والحرية الأسدية، مفهوم يعبر عن نزعة أقلويّة ومطامع وأحقاد حافظ الأسد، والذي لا يريد أن يصدق فلينظر إلى مصير ميشيل عفلق الذي لم يتمكن أهله حتى من دفنه في سوريا، ونديم البيطار الذي قتل في باريس وغيرهم كثير لقوا مصيرا مماثلا.