الفقر والكرامة

2023.08.25 | 15:13 دمشق

آخر تحديث: 25.08.2023 | 15:13 دمشق

الفقر والكرامة
+A
حجم الخط
-A

في الثقافة الديكتاتورية تتحول الشكوى من الفقر إلى نوع من العيب وقلة الكرامة، حيث تسعى الأنظمة الدكتاتورية جاهدة إلى جعل الناس يقتنعون بأن الفقر وعدم تمكنهم من تأمين قوتهم اليومي أمر معيب يجب إخفاؤه، حتى لا تتحول الشكوى منه، مع الأيام، إلى احتجاجات عامة، على الرغم من أن ليس هناك من سبب للخجل من الفقر لأنه ظاهرة سياسية اجتماعية سببها سياسات الأنظمة. 
ولكن لماذا دأب السوريون على عدم الربط بين الفقر وبين الكرامة؟ ولماذا يحرصون على إظهار أن ثورتهم ثورة كرامة واحتجاج على الظلم وليست ثورة ناس مسهم الفقر والعوز أيضا؟ على الرغم من أن النظام الأسدي نفسه استخدم الإفقار كوسيلة للهيمنة. 
بحسب ليونارد بيندر فإن مصر عبد الناصر من أوائل أنظمة المنطقة التي حوّلت الشكوى من الفقر والعوز إلى مسألة معيبة على المصري الوطني أن يتعالى عليها. وتفسير بيندر يعود إلى أن مصر في تلك الفترة لم تكن قادرة على حل المشكلات الاقتصادية للمصريين والحد من الفقر الذي ينتشر بينهم، ولذلك لجأت إلى تضخيم شعور المواطنين بهويتهم المصرية حتى ينسوا فقرهم وهمومهم اليومية، والتركيز على سردية أن "مصر أم الدنيا"، ومن بلاده أم الدنيا لا يعيبه الفقر في شيء.

مثل هذه الطريقة في التفكير في المشكلات الاقتصادية والمعاشية للفرد السوري تؤسس لثقافة أخلاقية تقوم على الفصل بين مصالح الأمة ومصالح الفرد، والرفع من شأن الأولى والتخفيض من مكانة الثانية

في سوريا دفع النظام الأسدي السوريين إلى الاحتفاظ بفقرهم لأنفسهم، وشجعهم على عدم طرح مشكلاتهم المعاشية والحياتية الخاصة على شكل شكوى علنية على الملأ (كشكواهم من عدم قدرتهم على تأمين متطلبات عائلاتهم، صعوبة الحصول على عمل، معاناتهم مع فساد المشافي وتدني مستوى المدارس، صعوبات تأمين تكاليف تعليم الأولاد..)، بحيث يشعر السوري بالخزي أو الخجل من نفسه عندما يطرح مثل هذه القضايا في المجال العام. يشعر بالخجل لأن التحديات القومية التي تواجه سوريا كبيرة بحيث لا يليق به أن يطرح مشكلاته الصغيرة وتضحياته المحدودة أمام التضحيات التي تقدمها السلطة الأسدية في مواجهة الأعداء. هكذا يتعود السوري على النظر إلى الصبر والمعاناة التي يكابدها مع المشكلات الاقتصادية الفردية على أنها مجرد تضحية بسيطة يقدمها لدعم نظامه القومجي. القضايا التي تليق بالمجال العام هي قضايا الأمة العربية والوحدة وفلسطين والجولان ومواجهة المخططات الإمبريالية، وطرح غير ذلك من المشكلات هو بمثابة خيانة ما بعدها خيانة لهذه القضايا، أو محاولة غير بريئة لتشتيت جهود النظام الأسدي التي تركز على قضايا سوريا والمنطقة المصيرية.
مثل هذه الطريقة في التفكير في المشكلات الاقتصادية والمعاشية للفرد السوري تؤسس لثقافة أخلاقية تقوم على الفصل بين مصالح الأمة ومصالح الفرد، والرفع من شأن الأولى والتخفيض من مكانة الثانية، بحيث تتحول ثقافة "التحمّل" لأعباء المعاناة مع المشكلات الاقتصادية الخاصة إلى نوع من التضحية البسيطة التي على كل سوري أن يقدمها، عن طيب خاطر، لأن المعاناة الحقيقية هي معاناة النظام وعمله على تحقيق الأهداف الكبرى.
طبعا الغاية من سردية الشعور بالعار والخجل من الفقر، ودفعه إلى العتمة، هي إنشاء ثقافة تقوم على عدم الربط بين فساد النظام الأسدي والفقر أولا، مثلما تعود إلى أن النظام الأسدي يفكر بالسوريين ليس بوصفهم مواطنين بل بوصفهم أشباه عبيد عنده، وأشباه العبيد يشعرون بالخزي والخجل من الفقر، ويسعون لإخفاء ذلك. في حين أن المواطن في البلدان الديمقراطية يقدم فقره على أنه مشكلة على النظام السياسي أن يجد لها حلا أو ليرحل.
في كل مرة ترتفع فيها الاحتجاجات في السويداء والمنطقة الساحلية يتصاعد الجدل السوري السلبي حول فيما إذا كانت هذه الاحتجاجات مدفوعة بالشعور بالكرامة أم مجرد احتجاجات على ارتفاع مستوى الفقر والعوز، الذي ما زال، منذ عدة سنوات، يسجل أرقاما غير مسبوقة جعلت من حياة السوريين في سوريا أقرب إلى حياة الجحيم، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.

التفريق بين الكرامة والفقر هو حيلة أسدية لا يجب أن تنطلي على السوريين الثائرين منذ أكثر من عقد من الزمان. حتى إن فرنسا في القرن السابع عشر كانت تعتبر كل فقير هو خطر على الإمبراطورية الفرنسية، لأن الفقراء والجائعين هم أكثر الناس استعدادا للثورة

في الحقيقة أن النظرة السلبية من قبل بعضهم لهذه الاحتجاجات أمر مؤسف لأن الجانب المادي للإنسان هو جزء لا يتجزأ من كرامته. ولعل أشهر الثورات، من الثورة الفرنسية إلى الثورة الروسية، قامت في البداية بوصفها ثورات على الفقر والعوز. حتى العدالة الاجتماعية التي نشاهدها في الغرب اليوم أتت حصيلة ثورات تعتقد أن الفقر هو أكبر الشرور التي يجب مواجهتها، وأن من حق الإنسان أن يواجه من أفقره وأن ذلك في صلب شعوره بالكرامة.  
التفريق بين الكرامة والفقر هو حيلة أسدية لا يجب أن تنطلي على السوريين الثائرين منذ أكثر من عقد من الزمان. حتى إن فرنسا في القرن السابع عشر كانت تعتبر كل فقير هو خطر على الإمبراطورية الفرنسية، لأن الفقراء والجائعين هم أكثر الناس استعدادا للثورة.
طبعا النظام السوري قبل الثورة حاول جاهدا إفقار السوريين بأكبر قدر ممكن عبر التأميم ثم الفساد والنهب وتحويل كل مشاريع التنمية إلى مشاريع خاسرة وما إلى ذلك. أما بعد الثورة فيبدو أن السحر انقلب على الساحر وأصبح النظام الأسدي نفسه يعاني من فقر مدقع، ولم يعد قادراً على السيطرة على ارتفاع مستويات الفقر. فإذا كان إفقار الناس، إلى مستويات معينة، يساعد كثيراً على الهيمنة واستقرار النظام السياسي، وتحصينه من الاحتجاجات، فإن الفقر المدقع كثيرا ما ينقلب إلى شرارة لاحتجاجات لا يعرف أحد إلى أين ستؤدي، وهو ما يثير قلق النظام الأسدي الآن أكثر من أي أمر آخر.