دولة القانون السورية والسيدة الإعلامية

2023.08.06 | 06:46 دمشق

دولة القانون السورية والسيدة الإعلامية
+A
حجم الخط
-A

دون شك سوف تكون مدهشة جرأة أي صوت ناقد يظهر من قلب دمشق في هذه الأيام حيث عاد السوريون للصمت المطبق والتلميح في الكلام، بعد سنوات من العنف والإجرام غير المسبوق مورس عليهم بكل الأشكال والأنواع عند مطالبتهم بالتغيير السياسي والاقتصادي؛ ما حدث في العقد الماضي من الزمن كان كفيلا بأن يعيد السوريين إلى صمت المقابر الذي عاشوا به عقودا طويلة؛ تعلموا الدرس جيدا: في هذه البلاد إما أن تصمت أو تدفع حياتك ثمنا للكلمة، أو اهرب منها إلى أي مكان آمن وتكلم كما تشاء. هذا أصبح من البديهيات في سوريا، تشهد عليه المقابر الجماعية، يشهد عليه دمار المدن والقرى، يشهد عليه مئات ألوف المغيبين والمعتقلين في السجون، يشهد عليه أيضا ملامح الخضوع والخوف على وجوه السوريين، يشهد عليه صمتهم أمام ما يقاسونه من الفقر والفاقة والعوز والحاجة واكتفائهم بالحديث عنها دون تحميل الجهة الوحيدة المتسببة بذلك مسؤولية ما يحدث. وبالطبع بات هذا ينطبق على جميع السوريين الذين يعيشون في الداخل السوري، مهما كانت انتماءاتهم أو مذاهبهم، وإذا ما تحركت مجموعة ما من (المكونات المدللة)، سوف تتم لفلفتها بسرعة شديدة خشية خروج الأمر عن السيطرة غير المسموح بها، كما يحدث في السويداء كل مدة.

كيف لمن قضت أكثر من عشر سنوات من عمرها تحترف التشبيح بكل أشكاله، المعنوي والمادي، أن تنقلب بين ليلة وضحاها إلى ناقمة على الأوضاع التي ساهمت هي ذاتها في ترسيخها؟

من هنا يمكننا أن نفهم حالة الإعجاب التي أصيب بها بعض سوريّي الخارج إثر تداول فيديوهات سيدة سورية تدعي أنها كاتبة وشاعرة وإعلامية وإلى آخر هذه الصفات التي تزين صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ولنعترف أن حالة الإعجاب المسيطرة أتت أولا من كون السيدة المذكورة تنتمي للطائفة العلوية، التي تشكل في أغلبيتها الساحقة الدرع الحامي للنظام، فأن يظهر علنا منها صوت ناقد ويهدد بفضح ملفات فساد يملكها، ويسمي الروس والإيرانيين بدول احتلال تريد استثمار المقدرات السورية وتغيير ديموغرافيتها، فهذا مثير للإعجاب حقا، ويمكنه أن يكون بداية يعول عليها في تغيير ما في بنية المجتمع السوري المنقسم تماما، مهما ظهر للعلن أنه منسجم و(مفيد)؛ وربما أيضا يمكن التعويل عليها في تغيير كيمياء الطائفة، أو على الأقل هي إشارة إلى تململ ما يحدث هناك ووجد  له صوتا ليظهر عبر السيدة (لمى عباس) الإعلامية والكاتبة والشاعرة!

لكن يخطر لي هنا سؤال واحد فقط: كيف لمن قضت أكثر من عشر سنوات من عمرها تحترف التشبيح بكل أشكاله، المعنوي والمادي، أن تنقلب بين ليلة وضحاها إلى ناقمة على الأوضاع التي ساهمت هي ذاتها في ترسيخها، وإلى ناقدة شرسة لها، وإلى داعية سلام وأخوة بين مكونات المجتمع السوري وتفتح ذراعيها لاستقبال إخوتها في الشمال والجنوب والغرب والوسط، باعتبار أن ذلك هو الحل الوحيد لإنقاذ سوريا؟ كيف لمن كانت قبل أشهر قليلة تباهي بأنها ساهمت بدورها في قمع (الخونة) وضربهم والقضاء عليهم بأن تصبح اليوم حمامة سلام وإخاء ومحبة؟ وللعلم فإن ما قالته عن الراحلة مي سكاف قد يكون حقيقيا إلى حد ما، على الأقل في جزئية قصر العدل حيث كنت موجودة هناك يومها ورأيت امرأة تشبهها كثيرا ضمن مجموعة من الشبيحة الذين كانوا بانتظار خروج المجموعة المعتقلة في مظاهرة الميدان من قصر العدل بعد الإفراج عنهم.

أتذكر جملة قالتها صارخة يومها: (أنتو لو ما سيادة الرئيس كنتو عرفتو شو شكلها الثقافة؟). لا بأس كان يمكن القول إنها تراجعت لاحقا عن موقفها شأن كثر بعد اكتشافها حقيقة الأمر لولا أنها إلى ما قبل شهرين أو ثلاثة أشهر كانت تفاخر على صفحتها في الفيسبوك بما فعلته خلال السنوات الماضية، ولولا أنها تنعي بحرقة وألم رموز المخابرات والأمن السوري ممن فتكوا بالسوريين عدة عقود من الزمن، ولولا أنها تضع خطوطا حمراً تتمثل في (السيد الرئيس وعائلته)، المنزهين عن الفساد الذي تنتقده، والمتعففين عن مسؤوليتهم في الخراب الحاصل، والبريئين من الدم السوري ومن فناء سوريا الذي تتحدث عنه السيدة لمى عباس الشاعرة والكاتبة والإعلامية.

تحاول السيدة المذكورة في فيديوهاتها تعليم السوريين أن يلوحوا بالقانون في وجه انتهاكات الأمن، إذ يكفي أن يفعل من يتعرض لمداهمة أمنية مثل ما فعلت: أن يطلب من عناصر الأمن ورقة رسمية تمنحهم حق المداهمة والاعتقال! يا لطيف كم كان السوريون أغبياء حين غابت عنهم هذه الجزئية البديهة! أو مثلا يتصلون بأحد ضباط الأمن من أصحاب النفوذ وهو سوف يقوم بتدارك الأمر وتصحيح الخطأ الشنيع الذي وقعت به العناصر الأمنية ذلك أن دولة القانون السورية لا تقبل بهذا التجاوز بحق مواطنيها. أو على السوريين الانتقاد تحت سقف السيد الرئيس وعائلته والمطالبة بتغيير الفاسدين الذين أشارت إليهم السيدة الشاعرة والصحفية والكاتبة بدون ذكر أسمائهم، هم فاسدون ومسيئون للوطن وعلى جميع أبناء الوطن المتحاربين والمتصارعين التكاتف الآن لإزاحتهم وإنقاذ الوطن منهم؛ لكن من هم ولمن يتبعون ومن يحميهم ومن يقف خلفهم وتحت أية سلطة يتمددون فهذا يشبه (المعنى في قلب الشاعر)، لن يصل المتابع لفيديوهاتها ومنشوراتها إلى أي نتيجة في هذا.

لم تتكلم السيدة لمى في كل طلاتها علينا عن المعتقلين والمختفين والمغيبين والمعذبين حتى الموت في السجون والمعتقلات السورية

ما فهمته من خلال منشورات السيدة لمى عباس أنها كانت ترأس واحدة من الجمعيات الخيرية وأن التمويل قد انقطع فجأة عن جمعيتها لسبب من الأسباب وبأمر مسؤول ما (من هو يا ترى؟)، أو ليس هذا سببا كافيا لتدعو السوريين في مشارق الأرض ومغاربها للتكاتف وإنقاذ سوريا مما هي فيه؟ وما ما حدث منذ عام 2011 من تهجير وقتل واعتقال وتصفية وموت ودمار ونفي وحرق ونهب وتسلط وإجرام وقصف وخطف كله لم يكن يستحق دعوة السوريين للاستنفار، فذلك كله كان ضمن بنود المؤامرة الكونية على الوطن والتي نفذها الدواعش السوريون في الشمال والشرق والجنوب والوسط.

لم تتكلم السيدة لمى في كل طلاتها علينا عن المعتقلين والمختفين والمغيبين والمعذبين حتى الموت في السجون والمعتقلات السورية، وكأن هذا الملف غير موجود أبدا، وكأن مئات آلاف السوريين من المعتقلين لا معنى لحياتهم فكلهم دواعش وكانوا من أركان المؤامرة على سوريا (لو ذكرت على الأقل المناضل عبد العزيز الخير)! هي تطالب بوقف الاعتقالات التي بدأت تطول بعض أبناء  الأقليات ممن يحتجون على الفساد، دون أن يعني ذلك أية دلالة لها ولمحبيها، دون أن تنتبه إلى أن المنظومة الحاكمة هي منظومة متكاملة سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، وأن أي انتقاد لجزء منها هو مس بكل أركانها، إلا لو كان الانتقاد على هيئة مسرحية مكتوبة جيدا يقوم فيها كل بدوره تساهم في امتصاص الغضب المتصاعد خشية انفجاره في وقت غير مناسب.

من غير الأخلاقي بمكان لأي سوري يعيش في الخارج ويتمتع بكل الأمان الممكن أن يطالب سوريي الداخل بالاحتجاج والثورة على الأوضاع ونحن جميعا نعرف نتيجة ذلك، من يطالب بالثورة عليه العودة إلى سوريا والعيش هناك والبدء بثورته واحتجاجه، هذا أقل الأخلاق الممكنة، ومن المفهوم الدعم الخارجي لأصوات ناقدة بتقدير أنها قد تكون بداية التغيير، لكن هذا يتطلب مراجعة كاملة وحقيقية من قبل المحتجين في الداخل من كانوا على شاكلة السيدة لمى عباس، ذلك أن اعتبار كل ما حدث منذ عام 2011 وحتى منتصف 2023 هو مؤامرة وأصحابها دواعش يستحقون كل ما جرى لهم، وأن تاريخ التغيير السوري يبدأ من فيديوهات السيدة لمى المطالبة بنبذ الفساد دون الاقتراب من المنظومة الحاكمة لا أمنيا ولا عسكريا ولا طائفيا فهذا ليس أكثر من محاولات جديدة لتبييض صورة نظام الأسد ومنظومته الكاملة.