حين كان هجاءُ دمشق حلالاً

2020.05.04 | 00:01 دمشق

umayyad_square_damascus.jpg
+A
حجم الخط
-A

"قنعَ البعثيون أنّ دمشق لا يمكن أن تكون بعثيّة، فأقاموا بينهم وبينها جداراً من المستحيل"، يقول سامي الجندي في كتابه "البعث" (1969)، ويُضيف: "لم يدرك البعثُ سرَّ دمشق، ظـنَّـها حجارةً وأبنيةً وشوارع وسابلة. وفي دمشق وصمَ تاريخَه بالغربة عنها، وهنا يكمُن ما أصيبَ به من خيباتٍ وفشل".

في كتابه الصادر عن وزارة الثقافة بعنوان "النحل البـرّي والعسل الـمُرّ" (1982)، رصدَ الناقد حنّا عبّود ثلاثَ سماتٍ عامةً وَسَمَت الشعر السوري في السنوات العشر التي تلتْ هزيمة حزيران 1967، الأولى هي "الرؤى السوداء"، ويقصدُ بها انتشار التشاؤم والسوداوية وفقدان الأمل في ذاك الشعر؛ والثانية هي "المازوكيّة" بمعنى استعذاب الألم والتغنّي به؛ والثالثة "جُنّاز الطبيعة" أي رثاء الطبيعة ووصف حالة الموَات الذاتية والعامّة. وقد لاحظ الناقدُ أنّ معظم شعراء تلك المرحلة يشتركون في ثلاث صفات، فهم أولاً يساريُّون، رغمَ الخلافات فيما بينهم حول من يمثّل "اليسار الصحيح"؛ وهم ثانياً من الطبقة الوسطى، والكدحُ الذي يمارسونه كدحٌ فكريّ (لعلّه يقصد أنهم موظفون في الدولة، وبالتالي سيصبحون من الطبقة الفقيرة منذ الثمانينيات فصاعداً)؛ أما الصفة الثالثة التي يشتركون فيها؛ فهي أنهم من أبناء الريف المهاجرين إلى المدينة، ولذلك وصفَهم بالنحل البريّ الذي استوطنَ في القفير الصناعي، ونتيجةً لاصطدامهم بالبيئة الجديدة، جاءتْ قصائدهم بطعم العسل الـمرّ.

وفي فصل "مورفولوجيا المدينة" من الكتاب ذاته، يرصد الناقدُ كيف كانت صورةُ دمشق في شعر الخمسينيات؛ صورةً للمدينة التاريخية العظيمة، لقلب العروبة النابض الذي يتصدّى للمؤامرات والأحلاف. ثم كيف تحوّلتْ في شعر الستينيّات -بعد صعود البعث وهزيمة حزيران- إلى مدينة تُهجَـى وتُشتَم وتُوصَف بصفاتٍ سلبية، فصورةُ دمشق من منظور أولئك الشعراء؛ قريبةٌ جداً من صورة دمشق لدى البعثيين كما وصفهم سامي الجندي. إنها مدينةٌ مطلوبة سياسياً نعم، فلا يمكن حكمُ البلاد من دون السيطرة عليها سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وثقافياً، لكنها مرفوضة طبقياً واجتماعياً وحضارياً، وذلك لأن أبناء الريف المهاجرين إليها قد واجهوا من الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية ما يواجه كلّ مهاجر إلى أي مكان. وفوق ذلك جاءت هزيمة حزيران، وسادَ إثرها لدى كثير من المثقفين العرب؛ أنّ سبب الهزيمة يعود إلى الشعب وثقافته و"عقله"، فالشعب هو المسؤول والقيادة بريئة. ولذلك شاعَ بين المثقفين السوريين هجاءُ دمشقَ ووصفها بالمدينة الفاسدة، ووصفُ أهل المدن بالتجّار الذين لا همَّ لهم سوى الربح، على خلاف أبناء الريف الذين لا همَّ لهم سوى تحرير فلسطين، وإقامة المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد.

ولذلك شاعَ بين المثقفين السوريين هجاءُ دمشقَ ووصفها بالمدينة الفاسدة، ووصفُ أهل المدن بالتجّار الذين لا همَّ لهم سوى الربح

على كل حال، فإنّ صورة دمشق بوصفها حاضرة تاريخية، وعاصمة الامبراطورية الأموية العظيمة، كانت حاضرة في تلك الفترة أيضاً، وفي الغالب عند شعراء المدينة مثل شوقي بغدادي. أما الخطاب الرسمي للبعثيين الممسكين السلطة، واليساريين الممسكين بالثقافة، فكان ينحو إلى إعلاء شأن الريف وأبنائه بالتوازي مع هجاء المدينة وأبنائها. ها هو نديم محمد يقول "عفنُ المدينةِ فارَ من خُبزي وفاضَ على صحافيْ/ ريفي أحبّكَ رأفةً بيضاءَ في ليلِ الخلافِ". وها هو ممدوح عدوان يصف ضياعه في دمشق: "أنا في دمشق التي تهتُ فيها/ وضيّعتُ أمتعتي وغنائيْ/ فقدتُ بضوضائها قدرتي أنْ أحبّ". وها هو علي كنعان ينعى دمشقَ ويصفها بـ "البغي": "دمشقُ تعيشُ ليلتـها بغيّاً غِبطةَ الجسد". وها هو واحدٌ يُدعى سهيل إبراهيم يكسرُ قلبَ دمشقَ "الفاجرة" حين يقرّر تركها والعودة إلى ضيعته، يقول: "أهجرُ مِنْ يومي مخدَعَكِ الفاجر/ كان الحلمُ هوىً صعباً". ونجدُ آخرَ يُدعى نزيه أبو عفش يعاتبُ دمشق لأنها لم تقمْ بواجبها تجاهه، بوصفه واحداً من أبناء الريف المهاجرين إليها، فيقول: "أنا الـمُقصِّرُ حين جئتُكِ حاملاً أرقيْ/ وقلتُ إذاً أراكِ/ أنتِ كاذبةٌ دمشقُ/ في القلب منكِ دم...". كما نجد علي الجندي يصفُ دمشق بـ "يا أرملةً فاجرةً تلعبُ بالعشّاقِ وبالباعة/ يا جاريةً يعشقها نخّاسُها ".

لكنّ الغريبَ أنّ مديح دمشق هو ما سوف يسود منذ التسعينيات فصاعداً، وذلك بعدما تمكّن البعثيّون من إحكام السيطرة على المدينة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فصارتْ مدينتهم. وظهرتْ طبقةٌ من رجال الأعمال الشباب (الذئاب الشابة)، هم أبناء كبار المسؤولين في نظام البعث، استطاعوا -بالفساد والإرهاب- السيطرة على اقتصاد البلاد، وصاروا هم ملّاك الشركات والمتاجر والفنادق والمطاعم والملاهي في دمشق وما حولها. ثم فرضوا ثقافتهم عبرَ شركات الإنتاج الفني والإعلامي التي أسَّسُوها، وعبرَ تبنّيهم لبعض الفنانين ودعمهم.

ولذلك تجد من الشعراء مَن كان يهجو دمشق في السبعينيّات، ثم صار يمدحها في السنوات الأخيرة، لأنه يقصد بهذا المديح دمشق الحالية، دمشق الأسد ومخلوف، لا دمشق التاريخية عاصمة الأمويّين. وتلاحظ أنه كلما تعرّض النظام لـ "مؤامرة جديدة"، أو لضرباتٍ تأديبيّة جديدة؛ ازداد استحضارُ دمشق في القصائد والأغاني، بغرض اللعب بمشاعر الناس، وإيهامهم زوراً أنّ النظام الحالي هو امتدادٌ أو لهُ علاقة بدمشق الحضارية التي كانت قبل البعث. وفي الحقيقة، فإنّ بعض الشعراء المؤيّدين صار يستخدم مديحَ دمشق الحاليّة، المحتلّة من إيران وروسيا، كـ "تقيّة حداثيّة" يُخفي تحتها مديحه لآل الأسد.

لكنّ الأسئلة التي تظلّ معلقة: ما هي العلاقة بين صعود طبقاتٍ اجتماعية من الريف إلى المدينة، ومن العمل الزراعي إلى الوظيفة العامة، ثمّ الإمساك بالمؤسسات الثقافية والإعلامية والفنية؛ بتغيير قيَم المجتمع ومواقفه وثقافته

لكنّ الأسئلة التي تظلّ معلقة: ما هي العلاقة بين صعود طبقاتٍ اجتماعية من الريف إلى المدينة، ومن العمل الزراعي إلى الوظيفة العامة، ثمّ الإمساك بالمؤسسات الثقافية والإعلامية والفنية؛ بتغيير قيَم المجتمع ومواقفه وثقافته، بما فيها القيَمُ الأخلاقيّة والجماليّة؟ فكيف وُصفتْ دمشق بـ "البغي" و"الفاجرة" و"الجارية" و"الكاذبة" إبّانَ سيطرة البعث عليها؟ وكيف صارت تُوصَفُ اليومَ بصفات القداسة؟!

 وما هي علاقة صعود البعث، وتوسُّع الوظيفة العامة، وسياسة الاستيعاب الجامعي، وإفساد التعليم والثقافة؛ بزيادة عدد الشعراء بشكل كبير منذ السبعينيّات؟ وما علاقة هذا التغيير الكمّي بالتغيير النوعي؟! أي بانحدار الشعر السوري منذ ذاك الحين إلى أنْ صار اليومَ مِنْ سَقطِ المتاع، مُتاحاً لـمَنْ هبَّ ودبّ؟

والسؤال الأهمّ: ما القوانين التي تسمحُ بصعود خطاباتٍ معيّنة وسيادتها في فترة من الفترات، بالتوازي مع إقصاء خطاباتٍ أُخرى وتهميشها أو تحريمها؟ ثم نجدُ أنّ الخطابات تتغيّر مع مرور الزمن، ومع تغيُّـر السلطة الحاكمة، من سلطة مُنتخَبة ديمقراطياً إلى فاشيّة عسكرية عام 1963، ثم تحوُّل الفاشيّة العسكرية من اشتراكية ريفيّة مزعومة إلى رأسماليّة مدينيّة مُحدَثة النعمة.