حول تخويف السوريين من الحرية

2022.10.12 | 06:22 دمشق

حول تخويف السوريين من الحرية
+A
حجم الخط
-A

تعد مسألة تخويف السوريين من الحرية والديمقراطية عموما، وكيف ستكون حياة السوريين في حال حصولهم على حرياتهم، من المسائل التي بذلت الثقافة السياسية الأسدية في سبيلها جهدا كبيرا، بغية تكوين صورة تقول بأن الحياة في ظل الحرية ستؤدي حكما إلى الفوضى، والانحلال الأخلاقي، وتدمير النسيج السوري الوطني. هذه المقالة ستتوقف عند الاستراتيجيات التي اتبعتها الأسدية الثقافية في التلاعب بكلمة الحرية وتحميلها لأوهام وشرور ومخادعات بريئة منها.  

أول وأهم خديعة قامت بها الثقافة الأسدية/ البعثية هي اختزال الحرية بتحرير الأرض. أي التركيز على الحرية بوصفها نضال للتحرر من المستعمر الخارجي، أو ضد القوى الاقطاعية والبرجوازية التي تستغل السوريين الفقراء. وتكمن الخديعة في استبعاد الحريات السياسية للسوريين وحقوقهم إلى أن تتحرر الأراضي، بإظهارها الحرية والتحرير وكأنها تتعارض مع تحرير الأرض. غير أن الفلسفة السياسية تخبرنا عن أنظمة سياسية كثيرة قادت معركة تحرير الأرض من المستعمر، لكنها سرعان ما تحولت إلى سلطات طاغية أسوأ حتى من المستعمر، لأنها لم تعط الحريات السياسية والحقوق لشعوبها. حتى إن النضال من أجل الحريات السياسية كثيرا ما تحول إلى عبء حقيقي يستدعي نضالا أقسى من النضال ضد المستعمرين الخارجيين. ويمكن ملاحظة هذه الخديعة ليس في سوريا وحسب، بل في العراق ومصر والجزائر ودول عربية أخرى. وما شعار الحرية بوصفه ثاني أهداف حزب البعث سوى سيف مصلت على رقاب السوريين يقول لهم نحرركم من المستعمر، ولكن لا نعطيكم الحرية. طبعا من دون الدخول في قضية أن النظام السوري فشل فشلا ذريعا حتى في قضية تحرير الأراضي، سواء كانت سورية أو عربية، لأنه كان منشغلا، بشكل شبه كلي، بتقييد الحريات السياسة للسوريين.

الوعي بالحرية وبطرق ممارستها، والشعور بالمسؤولية تجاهها، يرتفع كلما طالت فترة ممارسة شعب من الشعوب الحرية في حياته السياسية

أما الخديعة الثانية فتقوم على أن السوريين غير مستعدين للحرية بعد، لأنهم من أعراق ومذاهب وأديان مختلفة، والحرية لن تؤدي إلا إلى اقتتالهم الذي سيدمر سوريا ويؤدي إلى تقسيمها. وتعد هذه الاستراتيجية من الطرق التي اعتمد عيها النظام الأسدي كثيرا، عبر إفساح المجال لكل من يريد أن يعبث في سوريا (يوجد حاليا ثلاثة جيوش أجنبية وعشرات الميليشيات اللبنانية والإيرانية والأفغانية) من أجل القول: انظروا ما حل بالسوريين عندما طالبوا بالحرية. وتعود هذه الخديعة إلى أن ما حصل في سوريا يعود إلى حرمان الحكم الأسدي السوريين من الحرية لأكثر من نصف قرن. فالوعي بالحرية وبطرق ممارستها، والشعور بالمسؤولية تجاهها، يرتفع كلما طالت فترة ممارسة شعب من الشعوب الحرية في حياته السياسية. ولا يوجد شعب أحسن السلوك في ظل الحرية إلا بعد فترة طويلة من العيش في كنفها. وهذه هي خلاصة تجربة أوروبا مع الحرية. أما أن يمنع شعب من الحرية ويقال له أنك لا تحسن التصرف فهو أمر يشبه من يطلب من شخص السباحة من دون أن يكون قد سمح له بالنزول إلى الماء ولو لمرة واحدة. حتى إن من يريد اختصار الثقافة السياسية الأسدية/ البعثية طوال العقود الماضية يمكنه القول بأنها تتلخص في منع السوريين من النزول إلى الماء.

صقور الليبرالية في التاريخ كانوا من المتدينين، وأن هناك عشرات الدول الليبرالية تمنع زواج المثليين وتجرّم التجارة "الكبتاغون" الذي أصبح هو نفسه من أشهر تجارها في العالم

أما الخديعة الثالثة فتقول بأن الحرية لن تؤدي إلا إلى الانفلات الأخلاقي وانتشار الخلاعة والمخدرات. وهو تخويف من الحرية قام به بشار الأسد شخصيا عندما تكلم في العام الماضي أمام ثلة من مشايخ وعلماء وزارة الأوقاف السورية، عن أن "الليبرالية الحديثة" هي مشروع يعود إلى مئات السنين من أجل نشر الخلاعة و"المخدرات" و"زواج المثليين" و"نهب الغرب للممتلكات الشعوب"، كما أنها تتناقض مع الأديان وليس لها من هم سوى "ضرب إنسانية الإنسان". طبعا لا يمكن تفسير هجوم بشار الأسد الكاسح على الليبرالية الحديثة سوى أن الحريات السياسية، التي تتضمنها تلك الليبرالية، تعد من أكبر الأخطار المعاصرة على نظامه والأنظمة الديكتاتورية عموما، وأنها انتصرت خلال الثلاثين سنة الأخيرة على عشرات الديكتاتوريات في قارات العالم الخمس وأجبرتها على القبول بالطرق الديمقراطية في إدارة البلدان الحديثة. طبعا بشار الأسد لم يخبر علماء وزارة الأوقاف السورية أن أكثر من 90 بالمئة من الأميركيين (الليبراليين) يعرّفون أنفسهم اليوم على أنهم "متدينون"، ويحترمون عقائدهم الدينية. ودون أن يخبرهم أيضا أن الحرية في أول معانيها هي أن للإنسان الحق بأن يؤمن بعقيدته ودينه، وأن صقور الليبرالية في التاريخ كانوا من المتدينين، وأن هناك عشرات الدول الليبرالية تمنع زواج المثليين وتجرّم التجارة "الكبتاغون" الذي أصبح هو نفسه من أشهر تجارها في العالم.

المحزن في الأمر أن مثل تلك الخدع انطلت حتى على ما يسمى بالمعارضين السوريين للنظام الأسدي. فالحريات والحقوق السياسية للسوريين لا تكاد تذكر في المناطق التي تسيطر عليها الأطراف المعارضة. مثلما أن كلامه عن الحريات سيؤدي إلى الانفلات الأخلاقي، وتتناقض مع الأديان يكاد يتطابق مع قناعات "المجلس الإسلامي السوري" وإيديولوجية "هيئة تحرير الشام". الأمر الذي يجعل من الأطراف الثلاثة أقرب إلى بعضها بعضا عندما يتعلق الأمر بتخويف السوريين من الحرية التي ثاروا من أجلها، وكأن السوريين هم العدو المشترك بالنسبة لهم.