حفرة موت الضمائر

2022.05.04 | 06:42 دمشق

alkarykatyr_alashr_lshhr_nysan_2022.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يجوز التعامل مع حفرة الموت في التضامن بوصفها أمراً عاديا حدث مثله الكثير في سوريا خلال السنوات العشر السابقة، رغم أن هذا الأمر حقيقي جدا، إذ بالفعل حدث في سوريا الكثير من المجازر المشابهة أو المختلفة، ووصلت الارتكابات إلى درجة مهولة يصعب على العقل تصديقها، نفذها النظام ومؤيدوه ومن ادعوا معارضته من الكتائب الجهادية التي تناسلت كالفطر في مناطق الثورة وكانت الحد الفاصل بين الثورة الشعبية وبين الثورة المضادة التي أعطت للنظام كل ما أراده من مبررات؛ وإن كان نظام الأسد هو السباق في المجازر والقتل والارتكابات، ويتحمل الوزر الأكبر في ذلك بالنظر إلى اتساع رقعة مجازره مع حلفائه في الأرض السورية، واستمرارها لأعوام طويلة، وبالنظر إلى أنه هو من سهل لوجستيا لكل المجرمين لارتكاب جرائمهم، وهو من أعطى الأوامر ووافق على التنفيذ وأطلق جيشه ومخابراته وشبيحته لارتكاب جرائم لم يكتشف ربعها حتى الآن، وهو من سمح لحلفائه باحتلال سوريا والفتك بسكانها وارتكاب المجازر المدنية والعسكرية بحقهم.

لا يجوز التعامل مع مجزرة التضامن باستخفاف، ذلك أنها واحدة من مجازر قليلة يظهر فيها المجرمون واضحين مثل ضحاياهم

لا يجوز التعامل مع مجزرة التضامن باستخفاف، ذلك أنها واحدة من مجازر قليلة يظهر فيها المجرمون واضحين مثل ضحاياهم، المجرمون معروفون بالأسماء والضحايا يتم التعرف إليهم واحدا إثر الآخر بالأسماء أيضا، وهو ما يلقي الضوء على الذهنية التي كانت تحكم مجرمي الأسد في الأعوام الأولى للثورة، فرغم أن توثيق المجازر كان معتادا تلك الفترة إلا أن الثقة الموجودة في هذا الشريط المصور مذهلة، فقد حرص من صوره على إظهار كل شيء: برود أعصاب المجرمين في أثناء ارتكاب كامل المجزرة، عدم توقع الضحايا لمصيرهم فقد كان واضحا اعتقادهم أنهم يساقون للاعتقال قبل أن يتم الإلقاء بهم في الحفرة وقتلهم بالرصاص، زمن المجزرة الطويل الذي يعني أن المجرمين كانوا يشعرون بالحماية الكاملة ما يدحض نظرية الفعل الفردي التي بدأ مؤيدو النظام يكتبون عنها، الاستعلاء الذي يظهر في سلوك المجرمين والذي يذكر فقط بجنود النازية في أثناء سوق ضحاياهم إلى المحارق. كل ما في مجزرة التضامن يؤكد النزعة الاستعلائية لدى مرتكبيها، لهذا لا يجوز التعامل معها بوصفها حدثا تكرر كثيرا في سوريا، بل بوصفها أول المجازر التي كشفت وتدل على البنية الطائفية الاستعلائية التي ميزت المجازر الكبرى في السنوات الأولى للثورة.

كل ما في مجزرة التضامن يؤكد النزعة الاستعلائية لدى مرتكبيها، لهذا لا يجوز التعامل معها بوصفها حدثا تكرر كثيرا في سوريا

ينتمي أمجد يوسف إلى بيئة فقيرة ارتبطت بالمؤسسة الأمنية منذ الأب، إذ كانت المؤسسة الأمنية، بشكل خاص، تمنح المنتسبين لها حصانة السلطة،  وحصانة الوهم بأنهم أصحاب الدم الأزرق أو مواطنو الدرجة الأولى، يترافق ذلك مع تراكم اجتماعي قديم كاره للآخر (الغريب مذهبيا) نشأ بفعل مظلوميات معظمها بعيد عن الحقيقة وله أبعاد طبقية ومناطقية (ريف ومدينة) أكثر بكثير من أبعاده الطائفية والمذهبية وهي المظلومية التي عرف نظام الأسد كيف يتلاعب بها ويعززها لدى الكثير من مؤيديه ومن أبناء طائفته. الحقد الذي ظهر لدى أمجد يوسف وشريكه في الشريط المصور للمجزرة  ليس حقدا ذا أبعاد مذهبية فقط، بل هو مختلط مع حقد سلطوي قبلي أيضا، إذ يعترف أمجد أنه قتل الكثيرين انتقاما لأخيه الأصغر الذي قتل في معارك الجيش، ربما يمكن فهم حالة الثأر التي تصيب من فقد أخا، لكن مقتل الأخ هنا ليس سوى ذريعة، إذ إن الانتقام، لم يطل من قتلوا أخاه فقط، بل تعمم ليطول كل من وقع في طريقه، كل من وُجد في منطقة ثارت ضد ولي نعمته، لم يكن الثأر من مقتل أخيه هو السبب بل الخوف من أن تنتصر الثورة وتذهب تلك المزايا المفترضة التي يظن هو ومن مثله أنه يتنعم بها بوصفه من أبناء الطائفة وبوصفه مواطن درجة أولى لكونه ابن المؤسسة كما قال. لكن كيف أمن أمجد من العقاب وارتكب مجزرته بكل هدوء؟ سؤال طرحه الكثيرون خلال الأيام الماضية، وجوابه الوحيد المحتمل أن أمجد يدرك أن مؤسسته ارتكبت الكثير من الجرائم السابقة، كان اشهرها وأكثرها علانية هي مجزرة الثمانينيات في حماة وحلب التي ارتكبتها المؤسسة التي ينتمي لها أمجد ( المؤسسة الأمنية والعسكرية الميليشياوية التي أسسها الأسد الأب)، تلك المجازر التي قصمت الشعرة التي كانت تشكل بنية ما للمجتمع السوري، والتي فرضت تعايشا بالقوة وتحت سلطة الخوف، بينما في الوعي الجمعي للطوائف السورية تركت حقدا متراكما، ولدى المنتسبين إلى ( المؤسسة) تركت إحساسا بالتفوق والسلطة يبيح لهم التصرف كما يشاؤون، وتعزز ذلك مع تتالي الزمن حيث كان للمؤسسة الأمنية الكلمة الأولى في كل ما يختص بالمجتمع السوري. دون أن ننسى أن مجزرة الثمانينيات مرت دون أي محاسبة ودون أي عقاب لأي من مرتكبيها أو مصدري الأوامر لتنفيذها، ما جعل من السلالة المنتمية لهذه المؤسسة الإجرامية تؤمن فعلا أنها فوق أي قانون أو محاسبة؛ وبعد أن تم إطلاق يدها وتهيئتها للقتل والتنكيل بكل من خرج ضد النظام  إثر الثورة عام 2011 تعزز لديها  إحساس التفوق والاستعلاء حتى بدأت تشعر أن كل من لا ينتمي إلى نفس المؤسسة هو عدو يجب التخلص منه بأية طريقة، ( بطبيعة الحال فإن فقراء طائفة الأسد هم الأكثر وجودا في تلك المؤسسة الأمنية والعسكرية والميليشاوية بسبب عدم وجود بدائل تنموية ثقافية أو اقتصادية وهو ما كانت نتيجته ظهور طبقة أثرياء حرب جديدة في الطائفة كان أفرادها مجرد نكرات قبل 2011 يشبهون أثرياء الحرب لدى الكتائب الجهادية التي سيطرت على المناطق الثائرة وفتكت بالسوريين).

تلك المجازر التي قصمت الشعرة التي كانت تشكل بنية ما للمجتمع السوري، والتي فرضت تعايشا بالقوة وتحت سلطة الخوف

 لكل تلك الأسباب لا يجوز التعامل مع مجزرة التضامن كما لو أنها فقط واحدة من سلسلة مجازر ارتكبت في سوريا، فهي كذلك بالطبع، لكنها استثنائية من حيث طريقة ارتكابها المروعة وعدد مجرميها القليل قياسا بعدد ضحاياها، ومن حيث دوافعها المختلطة بين الحقد الطائفي والسلطوي، ومن حيث طريقة توثيقها وتصويرها والهدوء والثقة التي تمت فيها عملية التصوير، ومن حيث مصير المجرم الأول فيها أمجد يوسف الوحيد الباقي من مرتكبي المجزرة على قيد الحياة، ومن حيث ردود فعل مؤيدي الأسد عليها، إذ لا يبدو بعد كل ما مر به هؤلاء من ذل و فقدان كرامة والعيش في أردأ ظروف الحياة والمعيشة أن شيئا قد تغير في تفكيرهم تجاه ما حدث خلال السنوات العشر الماضية، وكأن حفرة التضامن وما شابهها من الحفر خلال السنوات العشر الماضية ضمت إلى جانب جثث الضحايا ضمائر المؤيدين ووجدان الصامتين عن تلك المجازر,