حرير ونفط وحروب

2023.10.03 | 06:56 دمشق

حرير ونفط و حروب
+A
حجم الخط
-A

كان إطلاق الممر التجاري الجديد التاريخي الذي أعلنته مجموعة الـ G7 له أثر كبير في الاستراتيجيات الدولية، فالطريق الذي سيمتد من الهند مروراً بسلطنة عمان والإمارات والسعودية والأردن فميناء حيفا، سيكون بديلاً أساسياً للمبادرة الصينية المسماة "الحزام والطريق"، التي تسعى الصين جاهدة منذ عقد من الزمن لإتمامها وتسهيل تنفيذها عبر ضخ مليارات الدولارات في الدول النامية التي تقع على الطريق الصيني التاريخي الذي كان يطلق عليه طريق الحرير، والذي اعتبرت بكين أن منافسها الآسيوي الضخم (الهند) يسعى لإفشاله عبر اتفاقية الممر التجاري الذي ترعاه الولايات المتحدة.

فلا يمكن للقارة أن تسير مع خطين تجاريين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القوة الاقتصادية الهندية الصاعدة تقف بالمرصاد لطموحات الصين الاقتصادية التوسعية التي تهدف إلى تمهيد الطريق اقتصادياً ولوجستياً وسياسياً وربما عسكرياً أمام تدفق البضائع ضمن ما يسمى اليوم بمصنع العالم الصيني، حيث اليد العاملة الرخيصة والكثافة السكانية الكبيرة والقدرة الهائلة على إنتاج ملايين البضائع بأرخص الأسعار، لتبقى المشكلة هي في كيفية إيصال هذه البضائع إلى الأسواق المحلية مع الحيلولة دون ارتفاع أسعارها، ليبقى المنتج الصيني كما أريد له أن يكون رخيصاً وفي متناول الجميع، فالصين تملك وسائل الإنتاج وتملك اليد العاملة ولكنها لا تسيطر على طرق التجارة العالمية المحكومة بالسوق الدولي وتقلباته، لذلك كان "الحزام والطريق" هو أسلوب الصين التاريخي في إحكام القبضة الصينية على العالم عبر الاقتصاد.

وفقاً للدراسات فالممر التجاري الهندي عبر الجزيرة العربية سيخفض مدة العبور نحو السوق الأوروبي والإفريقي بمعدلات كبيرة وسيكون على المنتج المصنوع في الهند أو بنغلاديش أو فييتنام أو كوريا الجنوبية أن يتحمل في أقصى الحالات عشرة أيام قبل الوصول إلى موانئ اليونان

الحلفاء في الشطر الغربي من العالم أدركوا هذا المأزق الذي قد يجعلهم جميعاً تحت قبضة الهوى الصيني، فعاجلت الولايات المتحدة لإتمام الصفقة التاريخية التي تسمح للمنافس الهندي أن يكون في ذات النقطة التي تريد الصين أن تتموضع بها، (مصنع العالم). وفقاً للدراسات فالممر التجاري الهندي عبر الجزيرة العربية سيخفض مدة العبور نحو السوق الأوروبي والإفريقي بمعدلات كبيرة وسيكون على المنتج المصنوع في الهند أو بنغلاديش أو فييتنام أو كوريا الجنوبية أن يتحمل في أقصى الحالات عشرة أيام قبل الوصول إلى موانئ اليونان.

في هذا الصدد وصل جو بايدن إلى فييتنام التي تعد من أقوى الاقتصادات الآسيوية بمعدلات نمو تقارب المعدلات الصينية، حيث تسعى هانوي إلى أن تحل بقوة مكان العملاق الصيني في استقطاب المصانع الأوروبية والأميركية، فاليد العاملة في فييتنام أرخص، والضرائب والنقل بطبيعة الحال ستصبح أقل، فييتنام هذا البلد الاشتراكي الذي خاض حروباً تاريخية ضد المستعمرين الأوروبيين والأميركيين عبر نصف قرن من النضال الذي سجله التاريخ، أصبح من أشد حلفاء الغرب وبالذات واشنطن، وفي مواجهة كبيرة مع جاره الاشتراكي الصيني، وعلى تضاد تام في جميع القضايا السياسية والاقتصادية التي انتهجتها الصين في العقود الأخيرة، تشترك هانوي ودكا وكوالالامبور ومانيلا في التنافسية الحادة مع الصين، وتعلم يقيناً أن التقارب مع الغرب سيفتح الأبواب لاقتصادياتها الصاعدة، والعكس صحيح، فالتقارب مع الصين يعني أن تتحول النمور الآسيوية إلى أسماك صغيرة سيبتلعها العملاق الصيني بسهولة، ويسر، لذلك تسعى هذه الدول إلى أن يكون لديها رصيد في الممر التجاري الهندي عبر الجزيرة العربية، وأن تشكل موقفاً سياسياً واحداً وقوياً في مواجهة عربدات كوريا الشمالية التي تستغلها الصين وروسيا لإحداث بلبلة في الاستقرار الآسيوي. كل هذه العوامل ستؤدي إلى نهوض كبير وازدهار للممر التجاري الهندي إذا ما أضفنا إليها النهوض الكبير للعملاق الهندي ورسوخ التجربة الاقتصادية في كوريا الجنوبية واليابان والسعودية والإمارات. لنكون أمام أهم حدث اقتصادي وجيوبوليتيكي منذ افتتاح قناة السويس قبل قرن ونصف.

بكين تدرك أنها ليست بحاجة إلى حلفاء في بحر من التنافس التجاري والصناعي، ولكنها لن تستطيع الصمود بسياساتها القمعية التي تساند الدكتاتوريات العسكرية التي تسحق الشعوب الراغبة في التقدم والديمقراطية

في المقلب الآخر، تقف الصين وحيدة على خريطة (الحزام والطريق) مستفيدة من سلسلة من الدول الفاشلة اقتصادياً التي تقع على الطريق الصيني، ابتداء من أفغانستان وإيران وباكستان والعراق وسوريا التي تتجهز لأن ترمي نفسها في فم العملاق الصيني إن قبل.

ولعل بكين تدرك أنها ليست بحاجة إلى حلفاء في بحر من التنافس التجاري والصناعي، ولكنها لن تستطيع الصمود بسياساتها القمعية التي تساند الدكتاتوريات العسكرية التي تسحق الشعوب الراغبة في التقدم والديمقراطية.

على هذه الصيغة يستمر انقسام العالم الجديد اقتصادياً كما هو منقسم سياسياً وعسكرياً، ويعلم الجميع أين تكمن مصلحة بلاده وتطورها، وليس مصلحة قادته، ابتداء من الصين وصولاً إلى بيروت، وعلى جانبي طرق الحرير والنفط، ستستمر حروب باردة وربما ساخنة، تمهيداً لنظام عالمي جديد سيمتد لنصف قرن مقبل.