جغرافيا متغيرة وحدود زائفة

2023.03.01 | 06:27 دمشق

جغرافيا متغيرة وحدود زائفة
+A
حجم الخط
-A

بهوية سورية خُلِقنا، بجواز سفر وبطاقة يثبت فيها نسب الأب والأم ويحدد فيه العمر والجنس والتولد والدين، مجموعة من الأوراق ربما لم تعد تشكل لنا قيمة في الوقت الحاضر لكنها الشيء الوحيد الذي يعترف فيه العالم بوجودنا.

بوثائق رسمية يعترف العالم بنا أو ينكرنا، وهي الوثائق التي أصدرتها الدول التي يُنسب إليها انتماؤنا أو اعترفت بنا ومنحتنا جنسيتها لتكون اختصاراً لتاريخنا وشخصياتنا.

بنقرة زر واحدة على جهاز الكمبيوتر يعتقد أي موظف حكومي أنه عرف ولاءاتنا وتاريخنا وشكل الحكم في بلادنا، لكنه في الحقيقة ينسى أنه لا يمكن أن يصل إلا إلى معلومات عامة لن تعطيه صورة كاملة عمّن نكون بالفعل، هذا  إذا كنا في الحقيقة غير مهاجرين أو مكتسبين للجنسية أو أننا قد وُلدنا في بلاد غير بلادنا الأم.

الانتماء حالة شعورية بينما تعد الحدود حالة واقعية جافة، وهي متغيرة تبعاً لمتغيرات كثيرة مثل السياسة أو حركة الأرض الجيولوجية

بالحديث عن البلاد التي ننتمي إليها لا يمكن لأحد اليوم أن يعد سكان لبنان والأردن وفلسطين على أنهم سوريون قانونياً، على الرغم من أنهم كانوا ينتمون في حقبة تاريخية إلى الدولة نفسها وبالتالي يتمتعون بالولاء ذاته، لكنهم اليوم يعيشون في دول يفصل بينها شريط حدودي وتختلف مصالح كل واحدة عن الأخرى مما يجعل مسألة الانتماء محل خلاف على أقل تقدير، ذلك إذا لم نحسب تضاربات مصالحهم اليوم في بعض الأحيان تبعاً لما تمر به المنطقة عموماً وسوريا على وجه الخصوص من متغيرات.

من زاوية ما يبدو أن فكرة الانتماء متلازمة مع فكرة الحدود لكنها تشكل مشكلة في حال اختلاف الفكرتين، فالانتماء حالة شعورية بينما تعد الحدود حالة واقعية جافة، وهي متغيرة تبعاً لمتغيرات كثيرة مثل السياسة أو حركة الأرض الجيولوجية على سبيل المثال.

في زلزال تركيا وسوريا الأخير قال خبراء إن الزلازل الهائلة التي حدثت يوم الاثنين السادس من فبراير قد أحدثت تغييراً هائلاً في الصفائح التكتونية، التي تجلس عليها تركيا، حيث دفعت بالبلاد إلى الغرب بما مقداره إلى ثلاثة أمتار،  ولم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها فقد حدث تحرك للفوالق من قبل بسبب الزلازل في زلزال سان فرانسيسكو عام 1906 الذي تسبب بزحزحة منطقة الزلزال نحو 6 أمتار، وفي تركيا نفسها تزحزح صدع الأناضول خلال زلزال إزميت عام 1999 أكثر من 2.5 متر.

يعتقد أيضاً من يؤمنون بوحدة بلاد الشام أن قبرص كانت جزءاً من الخريطة البرية إلا أنها انفصلت في حادث جغرافي ما، وما زالوا ينادون بها نجمة للهلال على الرغم من أن سكانها اليوم ليسوا سوريين أو عرباً على الإطلاق ويدينون بولائهم لدول جديدة أصبحت بلادهم بفعل التغيرات السياسية والجغرافية.

دراسات مختلفة أيضاً تذكر أن البحر الأحمر لم يكن موجوداً قبل حقبة من الزمن، وأن ذلك الانفلاق حدث نتيجة تحرك باطن الأرض على مدى مئات السنين، فظهر البحر الأحمر قاسماً اليابسة إلى دول مختلفة حدودياً وجغرافياً، ولا يختلف ذلك عن حال الحضارات التي أغرقها البحر بأكملها وأصبحت طي النسيان بفعل العوامل الطبيعية.

من الناحية العلمية يعيش كوكب الأرض حالة حركة مستمرة تجعله عرضة للتغيرات الدائمة واختلاف أماكن اليابسة وتموضع مياه البحار، وهذا بحد ذاته قادر على إعادة تشكيل الخريطة التي يصطلح عليها الإنسان المعاصر بأنها حدود دولته أو إقليمه مدعياً أنه يملك الحق ببسط سيطرته عليه وفرض قوانينه، غير أن ذلك الأمر لا يبدو أنه سيستمر إلى الأبد في حال حدوث تغييرات تتجاوز قدرات الإنسان المحدودة، لتصبح كل النظريات عن القوميات وصفاء الأعراق والانتماء للأوطان مجرد احتمال قابل للتغيير هو الآخر.

الحدود لعبة الأقوياء ليحكموا سيطرتهم على الضعفاء الذين تحركهم المشاعر مستغلين لديهم فكرة الوطن، لأنهم يحملون مسؤولية أخلاقية وعاطفية تجاه أوطان استغلتهم حتى الرمق الأخير، أوطان يحكمها وحوش يقتلونهم ويتاجرون باسمهم يضحكون لموتهم ثم يستقبلون الوفود الدبلوماسية لاستقبال التعازي بضحايانا على اعتبار أنهم ممثلو السوريين وأولو أمرهم، متناسين أنهم كانوا قتلة السوريين والسبب الأول في تشريدهم قبل وجود الأسباب الطبيعية.

نعرف نحن السوريين الملعونين بالشتات تلك اللعبة جيداً، وكأننا كبرنا مئة عام على تلك الخطابات التي يصمّ بها دعاة السياسة آذاننا، ولأننا حُرمنا من متعة الانتماء إلى بلاد شهدت ولادتنا وصبانا فقد اخترنا الانتماء إلى الإنسانية جمعاء.

اختار السوريون إنقاذ إخوتهم على الطرف الآخر من الحدود السورية من دون أن يسألوا عما إذا كان فيهم من يحتضن اللاجئين السوريين

كان السوريون أمام احتمالين لا ثالث لهما إما أن يكفروا بإنسانيتهم ويلعنوا قيمهم التي أودت بهم إلى مرحلة يستحقون بها الرثاء، وإما أن يتساموا فوق من اختصر البلاد باسمه ويرجحوا الانتماء إلى الإنسانية بصرف النظر عن الهوية والجنسية التي لا تصنع حدوداً رسمية وبرية فحسب، بل تسببت في عصور كثيرة بصنع فجوات بين الشعوب وحجمت إنسانيتهم تجاه بعضهم الآخر.

اختار السوريون إنقاذ إخوتهم على الطرف الآخر من الحدود السورية من دون أن يسألوا عما إذا كان فيهم من يحتضن اللاجئين السوريين ومن كان يدعو إلى ترحيلهم ويمتعض من وجودهم، اختاروا الانتماء إلى إنسانيتهم قبل الزلزال بعقود طويلة وبعد حدوثه، وبقوا وحيدين في وجه عالم ما زال يواجههم بعنصرية ورفض ونبذ وكيل اتهامات، لكن السوريين الممنوعين اليوم من نعمة الأوطان اختاروا تطبيق مقولة درويش: "كل قلوب الناس جنسيتي، فلتسقطوا عني جواز السفر".