icon
التغطية الحية

"جدّد القول.. هموم وأوهام في الفكر الإسلامي"

2023.01.01 | 09:33 دمشق

كتاب
+A
حجم الخط
-A

سنوات طويلة ونحن نتابع ذلك السعي المحموم، لتقديم نموذج محدث للإسلام، الأمر الذي شغل الناس، وباتت الدعوات إلى إعادة النظر في الكثير من مقولاته، أمراً مثيراً للاهتمام. سيما وأن العديد من الحركات العنفية، تستمد مشروعيتها من نصوصه.

وقد كان للفضائيات منذ ظهورها دور كبير في تقديم نماذج عالية التباين من هؤلاء السعاة لتقديم نموذج مقبول أو مطلوب من جهات بعينها، الأمر الذي أوقع متابعي هذه الفضائيات في "حيص بيص"، فما أن يطلع علينا اسم جديد ويبرع في اجتذاب السامعين إليه، وفي تحقيق حدٍ عالٍ من المتابعين، حتى يفاجئنا برشقنا بآراء وفتاوى غريبة ما أنزل الله بها من سلطان، سواء في التشدد أو في الترخص. وكلا الأمرين لا يفضي إلى مقاصده المفترضة، وهي تقديم قراءة جديدة لإسلام وسطي يمكنه أن يكون حاملاً للحياة الطيبة، المنسجمة مع روح العصر ومعززاً لقيم الحرية والعدالة والمساواة، التي باتت من مطالب المسلم بها لدى عامة المجتمعات، على اختلاف اتجاهاتها.

كتابنا الجديد "جدد القول" للباحث الإسلامي "محمد أمير ناشر النعم" يقدم ملامسات لبعض المفاهيم والإشكاليات، أو الهموم والأوهام كما عبر عنها، والتي تعترض الناظر لحال المسلمين، والمشتغلين بالفكر الإسلامي على وجه الخصوص، والجدد كما يشرح الكاتب هو المستوي والصلب من الأرض، وجدد القول هو ما لا اعوجاج ولا التواء فيه، كما قالت العرب "من سلك الجدد أمن العثار".

يتناول الكتاب أربع محاور رئيسة هي: "الفقه والفقيه والمتفقه- الفكر الإسلامي المعاصر في محاريب التعسف- أوهام الاقتصاد الإسلامي- نوافذ على التاريخ الإسلامي".

في مستهل الكتاب وتحت عنوان المشكلة الثقافية للمسلم المعاصر، يسوق لنا قولاً منقولاً عن الكاتب والمسرحي الإيرلندي برنارد شو: "سيأتي على البشر زمان يدينون بدين واحد ويتكلمون بلغة واحدة، أما ذاك الدين فهو الإسلام، وأما اللغة فالإنجليزية". وهذا النص مأخوذ عن مجلة الثقافة "السنة الأولى 1933" من تحرير جميل صليبا وكامل عياد وخليل مردم بيك، لكن هذا من وجهة نظر الكتاب، يحتاج بشكلٍ ملح إلى تجاوز أزمة الحضارة التي يعيشها الفرد المسلم، والتي تتجلى في الخلط بين العادة والدين، كما تتجلى في غوغائية إدراك المفاهيم المعرفية الإسلامية، التي تنبع من عدم تحري الدقة، كذا في الخلل بين التحويل والتطبيق.

كذلك جعل المفاهيم نصوصاً، ليقع النص تالياً ضحية تعدد الشارحين والمجتهدين أو المفسرين والمترجمين، الأمر الذي يخرج المفاهيم عن مقاصدها الأصلية.

وفي مقارنته بين قامات علمية وفكرية لمعت نهاية القرن التاسع عشر أمثال: الإمام محمد عبده، والفقيه محمد قدري باشا، والعلامة خالد الأتاسي، والعلامة التركي علي حيدر، والأستاذ الماروني سليم رستم الباز. وغيرهم كثير ممن أغنوا الفكر والفقه واشتغلوا بالموضوعات الكبرى، فبرهنوا على تفوقهم على اللحظة الراهنة، وأكدوا أن الفقه قادر على مناقشة اللحظة الراهنة بمرونة وحصافة، دون أن يبقى أسير حكايات الماضي السحيق ورواياته، مرتهناً لفتوى عرضت منذ عشرة قرون في البصرة أو بغداد، وانقضى زمانها.

فخلف من بعدهم خلف اشتغلوا في سفاسف الأمور، وجعلوا الأحكام اليومية قيوداً وتزمتاً ووصفات جاهزة، لا تراعي للظرف الراهن ولا للخصوصية الموضوعية حرمة، فكان نتاجها فقهاً منحطاً، فقه الهموم المتقزمة، وصرنا أمام فريقين، فريق مذهبي متجمد على مذهب أو إمام بعينه مع ما يستتبعه هذا التجمد من تعصب وضيق أفق، أفضى إلى إرباك الناس بفتاوى لا تنسجم مع مقاصد الشرع ولا مع روح العصر، وأصبحوا منفرين ينتجون ما يمكن تسميته بالفتاوى المعرقلة الاجتماعية او الاقتصادية او العلمية والحضارية، ويسوق مثالاً عليها فتوى أحد أساتذة الفقه في جامعة دمشق، بتحريم التجنيس بجنسية أجنبية لما في ذلك من تكثير عدد أولئك القوم، وما يستتبعها من محاذير متخيلة، والفريق الثاني هو التيارات السلفية أو اللامذهبية التي نجت من جمود اتّباع أشخاص محددين، لكنهم وقعوا في أسر حرفية النص التي تفقده في كثير من الأحيان مرونته الأصيلة، ومقاصده المتضمنة في روح الدين أصلاً.

يتناول في الباب الرابع في فصل "اعتناق الإسلام في العصور الوسطى، مقال في التاريخ الكمي"، وهو عنوان كتاب للمستشرق الأميركي ريتشارد بوليت الصادر عام 1979 عن جامعة هارفرد، وهو على قدر عال من الأهمية رغم غياب الاهتمام به مشرقياً، حيث يدرس وربما للمرة الأولى نسب التحول إلى الإسلام عبر مقارنة تلك النسب الصاعدة في "إيران والعراق وسوريا وتونس ومصر وإسبانيا" ويعرضها عبر جداول للمقارنة التي ستكشف للدارسين فيما بعد عن أسباب ذلك التحول وبواعثه كما يدرس أسباب ارتفاع تلك النسب في ايران والعراق بالمقارنة مع بلاد الشام ومصر، وسيلاحظ تطابق تلك النسب تقريباً بين بلاد الشام ومصر، ولماذا كانت نسب الدخول في الإسلام في إسبانيا زمن ملوك الطوائف أعلى منها في زمن الدولة الأموية، وأشياء أخرى تغني الباحثين في التاريخ والأنثروبولوجيا، وقد أتاحت ثورة المعلومات وتوفر الحاسبات العملاقة القدرة الفائقة للتحليل الرقمي، الذي يكشف نتائج مذهلة لم يكن لها أن تتأتى لولا تلك التقانات.

 كاتبنا الباحث محمد أمير ناشر النعم مهتم ومتخصص في القضايا الإسلامية عموماً، وقد عايش معظم القضايا التي تناولها خلال مسيرة ربع قرن أو تزيد، عن قرب واهتمام مباشر، يختم لنا كتابه بفصل صغير "مسيرة نحو التسامح" وهو أقرب للتوصيات التي يخلص اليها الكاتب بعد تقليبه وجوه الرأي وتلمس مواطن الاعتلال، في المحاور التي عرضها وأشبعها نقداً، والتي يراها من أسباب تباطؤ مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر، عن التصدي للقضايا الأكثر أهمية في حاضرنا المعاش، ويرى أن "الأدب والفلسفة والتصوف من أجدى الوسائل لإنتاج التسامح وتعزيز روحه، كونها تعيد للأذهان وتزرع في النفوس أن معظم أدواتنا التي تحكم توجهاتنا، ما هي إلا رؤى وأفهام ونتاجات بشرية، يعتريها ما يعتريها، لذا ينبغي إعادة النظر فيها وتقليب وجوه الرأي والمراجعة المستمرة، ونقدها واختبار ثباتها، بشكلٍ مستمر، استهداءً بقول الفيلسوف الجاحظ "الأدب عقل غيرك، تزيده في عقلك".

ويوصد كتابه بهذا المقطع الجميل:

"تقوم دراما الوجود الإنساني على ثنائيات متقابلة منها العنف والسلام، التعصب والتسامح، وفي كل حقبة تاريخية يعود العنف والتعصب بشكلٍ من الأشكال، ويتجددان ويتمظهران من خلال مهووسين بالذات، يتجاسرون على اعتبار حقيقتهم الدينية أو السياسية هي الوحيدة القابلة للحياة، واعتبار ارادتهم المنفردة هي الجديرة بتحريك العالم، وفكرتهم هي الوحيدة التي تبنيه، لذا كان على رجال الفكر والأدب والقلم تبيان تفاهتهم بهتك وقارهم، وكشف جرمهم بفضح ممارستهم، ومقارعتهم بالدعوة إلى الحرية، ومناجزتهم بالتبشير بالسلام والتسامح، وتأصيل ذلك بالحجة والبرهان".


جدد القول. الكاتب محمد أمير ناشر النعم
صادر عن دار الجديد. بيروت 2023