تونس ربيع دائم الاخضرار

2019.10.16 | 17:28 دمشق

2019-10-13t230818z_2118280485_rc1d9434dcf0_rtrmadp_3_tunisia-election-saied.jpg
+A
حجم الخط
-A

تونس أيا خضراء يا  حارقة  الأكباد     غزلانك  البيضاء  تصعب على الصياد

غزلان في المرسى ولا في حلق الواد    على الشطوط تعوم ما تخاف فيضِ المَيْ

بيتان من الشعر يعودان إلى زمن جميل مضى، يعادل عمر الرئيس التونسي المنتخب، زمن شدا خلاله بهما صوت الفنان السوري المهاجر إلى مصر فريد الأطرش عَبْر أغنية طويلة معروفة اسمها "بساط الريح" جاب الأطرش من خلال كلماتها بعض بلاد العرب واصفاً إياها بما فيها، فمن دمشق وبيروت إلى بغداد العراق وصولاً إلى تونس ومراكش وعودة إلى مصر.. بيتان عبقت بهما الذاكرة حين استوقفني تاريخ الثاني والعشرين من شباط 1958 الذي هو تاريخ مولد الرئيس التونسي الجديد "قيس سعيِّد" المنتخب ديمقراطياً بأصوات لم يشهدها أي بلد آخر إلا في الاستفتاءات الصورية على حكام عسكريين تأتي بهم انقلابات تآمرية تسمى ظلماً ثورة كانقلاب حافظ الأسد وما شابهه.. قد لا يعني ذلك التاريخ شيئاً لأبناء جيل اليوم.. لكنه في ذاكرة التاريخ العربي المعاصر أمر عظيم إذ يشكل إشراقة في تاريخ العرب المعاصر، إنَّه ذكرى إعلان قيام أول وحدة عربية بين سورية ومصر، وآذنت بعالم عربي جديد، فقد أتت إثر أحداث جسيمة، أبرزها نكبة فلسطين، وما أعقبها من مآس وربما جاء إعلان الوحدة التي أرادها حزب البعث ليحكم من خلالها، وأرادتها شعوب المنطقة نقطة انطلاق لأفق حضاري واسع.. ولما فشل البعث استردَّ سوريا إذ واتته الفرصة، فتربع بعسكره عرش سوريا منفرداً، لتؤول في النهاية، إلى ما آلت إليه من خراب ودمار..!

صحيح أن نتائج الانتخابات التونسية تشير إلى أنَّ الربيع العربي مستمر، ولكن وفق قوانين الحياة ذاتها التي لا تقول بتطابق الأقدام على الطريق الواحد، فثمة قدم طويلة وأخرى قصيرة

وإذا كان لنا عبرة في التاريخ فإنه يمكننا استعادة هذه الذكرى للإشارة إلى فرح جيلنا بالآمال العظيمة التي رسمت له.. ذلك الجيل الذي تشكل وعيه السياسي مع ذلك الحدث، وكم تغنى بمثل تلك الأغاني.. (وطني حبيبي الوطن الأكبر، قلنا حنبني وداحنا بنينا السد العالي.. إلخ) لكن ذلك الفرح سرعان ما انطفأ مع حكم العسكر، والقمع الذي مارسوه لكنَّ بعضنا استمرأ ذلك الشكل من الحكم تحت تأثير تلك الشعارات، لا سيما أنَّ تيارات دينية قد غذّته إذ هي تكفِّر كل من خرج على الحاكم..! حتى جاء "الربيع العربي" فتبلبل الناس، وانقسموا فيما بينهم، ومنهم من ارتكس، وعاد ليقبل بحكام أسوأ ممن كانوا إلا من بعض المؤمنين بقوة الحياة ودور الإنسان وبمستقبله، وبقيم الحق والخير العميقة.. وما كان للحياة أن تخذل محبيها، إذ بدأت تعود نبتات ذلك الربيع إلى الظهور في أرض ظننا أنها يبست، فهب السودانيون والجزائريون، وعادت مصر تومض من جديد، والتهبت من بترول العراق المنهوب شعلات تشير إلى أن بغداد تصحو من قهر وذل ونهب واستعباد طائفي بغيض.. واستمرت تونس بين مدٍ وجزرٍ حتى عاد ذلك الرجل ذو الشعر الأبيض إلى يأسه بعد أن كان قد خرج إلى الشارع التونسي وقال من طول انتظار كلمته الشهيرة "هرمنا" يوم رحل زين العابدين بن علي.. لكن تونس اليوم التي ولَّع محمد البوعزيزي شارعها بل الشارع العربي كله تعود بإشراقة جديدة لتؤكد ما كانت قد بدأته، وتقول بفخر وانتصار: إن الديمقراطية عنوان الربيع العربي الرئيس لا زالت بخير، وهذا الرئيس الجديد أحد ثمراتها الطيبة فهو قادم من قلب الشارع التونسي بل من خيرة أبنائه وقد تفوق على الأحزاب والإيديولوجيات لما يتمتع به من مزايا هي الأقرب إلى ما ينشده الشارع من طموح، فهو رجل مستقل وحقوقي وواقعي في الوقت نفسه، يعرف ما تصبو إليه تونس من قضايا أساسية سواء ما كان منها على صعيد الوطن أم المجتمع أم تلك التي لا تستطيع تونس أن تنفصل عنها كالقضية الفلسطينية، وقد أعطاه الشعب بمحبة، ودونما دعاية انتخابية، إذ حاز على نحو "ثلاثة ملايين صوت، وهو أكثر مما تمكّنت كل الأحزاب مجتمعة من تحصيله في الانتخابات التشريعية الأخيرة". وقد جاوزت نسبة المقترعين الـ 60% وحصل على عدد أصوات، بحسب العربي الجديد، "يفوق ما حققه الرئيسان السابقان الباجي قائد السبسي، ومنصف المرزوقي مجتمعين، في انتخابات الرئاسة عام 2014".

صحيح أن نتائج الانتخابات التونسية تشير إلى أنَّ الربيع العربي مستمر، ولكن وفق قوانين الحياة ذاتها التي لا تقول بتطابق الأقدام على الطريق الواحد، فثمة قدم طويلة وأخرى قصيرة، وواحدة رهوة ورابعة قاسية.. كما تؤكد تلك النتائج أن القيم الإنسانية التي يحتاجها التونسيون لا تتجلَّى في الواقع بأصوات الدعاة ومواعظهم بل لا بد من سيادة القانون وحمايته فجلّ ما ركز عليه المرشح الفائز هو القضايا الحقوقية وهو الذي مارس ذلك خلال حملته الانتخابية حين رفض متابعة الحملة، ومنافسه في السجن، إذ وجد الأمر لا يستقيم.. وقد حفظ الشعب له هذه القيمة الأخلاقية النبيلة، ولا شك في أن الأحزاب سواء النهضة أم الأحزاب الديمقراطية قد منحته أصواتها لكن أصواته الفعلية كانت من الأغلبية الشعبية التي لم تكن جاهلة كما يروج في العادة فالشعب بفطرته يملك القدرة على التمييز وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالشأن الوطني العام! لا شك في أنَّ انتخاب السيد "قيس سعيِّد" سيعطي دروساً كثيرة للشعب التونسي وأولها الأحزاب السياسية.. كما أنَّ الحال كلها ستمنح الربيع العربي دفعاً جديداً وبخاصة في الأماكن التي تعثَّر فيها وسيساهم في كشف الخلل هنا وهناك ويفضح أولئك الذين وجدوا أسباباً هشة ليدمروا أوطانهم..!

لكن تونس اليوم التي ولَّع محمد البوعزيزي شارعها بل الشارع العربي كله تعود بإشراقة جديدة لتؤكد ما كانت قد بدأته، وتقول بفخر وانتصار: إن الديمقراطية عنوان الربيع العرب

ويبقى أن تأخذ الأحزاب التي فازت في الانتخابات التشريعية الدرس وتعيه جيداً فقد قاربت نسبة تصويت الشباب الذين صوتوا لقيس سعيِّد الـ 90 في المئة وهذا يشير إلى أنَّ الأجيال الصاعدة قد يئست من الأحزاب التقليدية التي لم تستطع تلبية حاجات الشباب ولا مواكبة تطلعاتهم.. ولعل هذا الأمر يشبه إلى حد بعيد الحال التيلكن تونس اليوم التي ولَّع محمد البوعزيزي شارعها بل الشارع العربي كله تعود بإشراقة جديدة لتؤكد ما كانت قد بدأته، كانت عليها معظم البلاد العربية قبل ستة عقود أي قبل الانقلابات العسكرية التي بررها قادتها بفساد الأحزاب وصراعاتها، لكنَّ سطوة العسكر أتت بفساد أكبر وأسوأ.. فساد أتى مختبئاً في ثنايا قمع الشعب وإخفاء صوته.. أما اليوم فالوضع مختلف تماماً، فالديمقراطية ملك الشعب وهي تمتلك أدواتها القادرة على تقويم أي اعوجاج في السلطة أو في المجتمع..

إن تونس اليوم تخط لنفسها ولدول المنطقة جميعها أفقاً جديدة، وما جرى في السودان، وما هو معقود عليه في الجزائر، ومأمول أيضاً من مصر والعراق يؤكد أن الربيع العربي بخير.. أما هؤلاء الذين أخطؤوا التقدير، ودمروا بلدانهم، فهم إلى زوال.