هزيمة حزيران.. نكبة العرب الفعلية

2023.06.15 | 07:30 دمشق

هزيمة حزيران.. نكبة العرب الفعلية
+A
حجم الخط
-A

صادف يوم الخامس عشر من شهر أيار الماضي الذكرى الخامسة والسبعين لـ "نكبة" فلسطين كما صادف الخامس من حزيران الجاري الذكرى السادسة والخمسين لـ "النكسة" أو لـ "حرب الأيام الستة" بحسب إسرائيل. ومعروف أن تلك الحرب جاءت لتتجاوز "النكبة" لكنها أتت أشد كارثية منها.. فالنكبة في معاجم اللغة العربية تعني "المصيبة"، بينما توحي مفردة "النكسة" بما هو أقل وجعًا وإيلامًا، لكنها في المعاجم، لها معان أبعد وأعمق، وتتطابق مع ما حدث بالفعل.. فـ "نكس الشيءَ ينكُس نكساً: قلبه أو جعل أعلاه أسفله أو مقدَّمه مؤَخَّره. ونكس رأسه: طأطأه من ذلِّ. ونكس المريض بمرضه: أعاده مرة أخرى. وتلك المعاني الثلاثة قد حدثت بالفعل..

في مساء يوم الثاني عشر من "نكسة" حزيران، خيّم ليل قاتم السواد في سماء البلدان التي كانت تهتف للعروبة وتحرير فلسطين، فقد كشفت الهزيمة زيف تلك الشعارات.. وأتت النكسة كارثة أو فاجعة فتحت جرحًا أكثر عمقًا وأشد تأثيراً مما خلَّفه جرح النكبة الذي نسب إلى الخيانة، وثقافة التخوين التي انتشرت في المرحلة الواقعة بين 1948 و1967 محملة حكام تلك المرحلة مسؤولية النكبة.

والحقيقة، أن حرب الـ 48 جاءت في ظروف لم يكن هناك توازن بين القوى المتحاربة.. إذ كان العرب، قد خرجوا توًا من الاحتلالات الأجنبية وفق اتفاقية سايكس بيكو.. وكانت حكوماتهم نويَّات أولية في طور التكوين، ويدين بعضها لدول أجنبية مسؤولة مباشرة عن إنشاء الكيان الصهيوني الذي كان يُحَضَّر له منذ نحو مئتي عام. يرى موقع "وفا" الإخباري الفلسطيني، أنَّ "أولى المطالب لتحقيق هذه الفكرة ما قام به التاجر الدنماركي أوليغربولي عام 1695م، الذي أعد خطة لتوطين اليهود في فلسطين، سلمها إلى ملوك أوروبا ذلك الوقت.." كما "اقترح الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت عام 1799 إقامة دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وسوريا".

ورغم أن الدولة العثمانية لم تكن راغبة بوجود دولة يهودية في فلسطين، إلا أن تسلُّل اليهود قد بدأ مع تسرُّب الضعف إلى قلب الإمبراطورية آنذاك، وربما رافقته غفلة بعض الولاة.. ومع بدء البعثات التبشيرية الأوروبية، وخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الهجرة اليهودية تزداد وتتفاقم، وتعمل على حيازة الأراضي الفلسطينية، لتقيم عليها مستوطنات صهيونية.. يذكر موقع "الجزيرة نت" (الموسوعة: فلسطين)، في مقالة عنوانها "حرب 1948" وتاريخ 14/5/2015 أن "الدولة العثمانية شهدت أولى مراحل الاستيطان، بعد انعقاد مؤتمر لندن عام 1840"، (شاركت فيه عدة دول أوروبية مع الإمبراطورية العثمانية للحد من توسع نفوذ محمد علي باشا، والي مصر) وقدِّر عدد المستوطنات التي أنشئت بعد ذلك التاريخ بـ 39 مستوطنة يسكنها 12 ألف يهودي".

شارك في حرب 1948 عدة جيوش عربية لم تضم مجتمعة سوى خمسين ألف مقاتل، بينهم متطوعون مقابل أربع ميليشيات إسرائيلية (الهاجاناه، شتيرن، الإرغون، البلماخ..) حوت آلاف المقاتلين المدربين

وقد استمر الحال على ذلك النحو، ليأخذ بعد الحرب العالمية الأولى تطورًا نوعيًا مع وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو عام 1917 وخضوع فلسطين للانتداب البريطاني.. وتجلى ذلك التطور بنشاط أكبر للمؤسسات الصهيونية. وبالسيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية..

شارك في حرب 1948 عدة جيوش عربية لم تضم مجتمعة سوى خمسين ألف مقاتل، بينهم متطوعون مقابل أربع ميليشيات إسرائيلية (الهاجاناه، شتيرن، الإرغون، البلماخ..) حوت آلاف المقاتلين المدربين. بعضها كان ينشط قبل عدة عقود.. ورغم ذلك فقد قاتلت تلك الجيوش بنسب مختلفة.. وفقدت نحو سبعة آلاف مقاتل، بينما قتل من الإسرائيليين مثل ذلك العدد، فيما فقد الفلسطينيون وحدهم نحو خمسة عشر ألفاً..

أما ثقافة الخيانة فقد برزت تحت عناوين "الأسلحة الفاسدة"، و"ماكو أوامر"، و"قبول الهدن".. و"انسحاب بعض الجيوش من أراض أعطاها قرار التقسيم للفلسطينيين.." وإذا كان ذلك واقع فعلًا فإن تلك الثقافة قد بررت، من حيث تدري أو لا تدري، للانقلابات العسكرية التي عدّها أبطالها ثورات أتت لتستعيد فلسطين، وتحقق الوحدة العربية، وتحارب التخلف، والأنظمة "الرجعية"، وغير ذلك.. فكانت تلك الحرب تجربتها الأولى، وهي "نكسة" فعلًا بمعانيها، ودلالاتها كافة..

لم تضحِّ قيادة البعث بدورها، ولم تقم بمحاسبة قادة الألوية العسكرية، ولم تستطع محاسبة وزير الدفاع حافظ الأسد الذي استغل طرح ذلك في القيادة ليجمع حوله عدداً من الضباط، ويقوم بحركته الانقلابية بعد ثلاث سنوات

وتأتي استقالة عبد الناصر ردة فعل عفوية، لكن السوفييت استطاعوا تحويل الهزيمة إلى نصر بمقولة: إن العدوان لم يحقق أهدافه، وهي: "إسقاط النظامين الوطنيين التقدميين في مصر وسوريا". وعاد عبد الناصر، ومثل ذلك حصل في القيادة القطرية لحزب البعث، إذ رفض اجتماعها، المنعقد بعد توقّف الحرب، اقتراحين أحدهما لـ "نور الدين الأتاسي" الأمين العام للحزب، رئيس الدولة، وقضى بـ "الانفتاح على الشعب أسوة بالشعوب التي تمر بظروف مشابهة، ولا يتحقق الانفتاح إلا ببناء جبهة وطنية عريضة.. وأن الوقت العصيب الذي تمر به البلاد يتطلب هذه الخطوة". في حين اقترح "عبد الحميد مقداد" (عضو القيادة القطرية) "الدعوة إلى مؤتمر وطني، تعلن فيه القيادة تخلِّيها عن السلطة، وإعادة الأمانة إلى الشعب، كي يتدبر أمره ويتولى شؤونه بنفسه، ويحرر أرضه بالطريقة التي يراها مناسبة" (حبيب حداد، "النهضة المعاقة" ص 119- 120)، لكن ذلك لم يحدث طبعاً! فلم تضحِّ قيادة البعث بدورها، ولم تقم بمحاسبة قادة الألوية العسكرية، ولم تستطع محاسبة وزير الدفاع حافظ الأسد الذي استغل طرح ذلك في القيادة ليجمع حوله عدداً من الضباط، ويقوم بحركته الانقلابية بعد ثلاث سنوات، ممكِّنًا لسلطته ولابنه من بعده الذي قاد سوريا إلى خراب كلِّيٍّ.

أخيرًا: يقال في انتكاسة المرض بأنها أشد خطراً من المرض ذاته، وهذا ما حصل لنا بعد تلك النكسة إذ احتلت إسرائيل نتيجة الحرب "النكسة"، أضعاف ما أعطاها قرار التقسيم.. وذهب أنور السادات، بعد عشر سنوات، مُطأطِئ الرأس إلى إسرائيل نافضًا يدي مصر من القضية برمتها، وبذلك مكَّن للعدوان، وقلَبَ مع الأسد بنتيجة حرب 73 "التحريكية" الأمور رأسًا على عقب..

اليوم، ورغم مساعي أغلب العرب باتجاه التطبيع، وتبرئة "بشار الأسد" وأنفسهم (فهم شركاء) من جريمة هدر دم السوريين وتهجيرهم وتدمير سوريا، لا تزال تلوح في الأفق ملامح دولة الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية التي سعت إليها الثورة السورية ولا تزال..