تمخّضَ الجبلُ فولدَ لجنةً دستوريّة

2019.10.01 | 18:20 دمشق

بدرسن
+A
حجم الخط
-A

بعد طول انتظار، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش بتاريخ 23 أيلول 2019 عن تشكيل اللجنة الدستورية السورية. وبعد ثلاثة أيام بتاريخ 26 الشهر وجّه السيد غوتيريش إلى رئيس مجلس الأمن رسالة يعلمه فيها التوافق على: "الاختصاصات والعناصر الأساسية للّائحة الداخلية للجنة الدستورية، ذات المصداقية، المتوازنة والشاملة للجميع، بقيادة وملكية سورية وبتيسير من الأمم المتحدة في جنيف".

وبتاريخ 30 أيلول قدّم المبعوث الدولي الخاص غير.أ. بيدرسون إحاطة لمجلس الأمن حول هذه اللجنة، شرح فيها مجمل ما تمّ التوصل إليه من تقدّم في هذا المجال.

وبنفس التاريخ أي في 30-9-2019 قدّم الدكتور نصر الحريري رؤية هيئة التفاوض لمسألة تشكيل اللجنة الدستورية من خلال مؤتمر صحفي، عرض فيه بشكل مكثف مراحل تطور الحالة السورية منذ انطلاق الثورة وحتى اللحظة الراهنة.

سنحاول هنا بقدر ما تسمح لنا المعطيات، أن نفهم طبيعة هذه اللجنة والآثار المترتّبة عليها ومدى تحقيقها لتوقعات وآمال السوريين. لذا سيكون من المهم بداية التذكير ببعض النقاط الرئيسة والمنعطفات الهامة التي مرّت بها الحالة السورية حتى لحظة إعلان هذه اللجنة، وذلك على صعيد مواقف المجتمع الدولي والقرارات الأممية، دون الدخول بشرح الوضع الميداني الذي بات يعرفه الجميع.

كانت البداية الحقيقية مع بنود خطّة كوفي عنان الستّة التي تتلخص في:

(التعاون مع المبعوث الدولي لإطلاق عملية سياسية شاملة يقودها السوريون، وقف العنف وسحب الجيش من المدن، إعلان الهدنة وإدخال المساعدات للمناطق المتضررة، الإفراج عن المعتقلين، ضمان حرية عمل الصحفيين، ضمان حق التظاهر السلمي وحرية تكوين المؤسسات).

 

ثم انتقلنا إلى اتفاق جنيف الذي صدر بتاريخ 30-6-2012 عن "مجموعة العمل من أجل سوريا" والذي تعلّق جوهره بتنفيذ النقاط الست الواردة أعلاه في خطّة السيد كوفي عنان.

بعد ذلك، وإثر قصف النظام لغوطة دمشق بالكيماوي، صدر القرار رقم 2118 بتاريخ 27-9-2013 والذي ينص في فقرته 16 على:

(..... يؤيد تأييداً تاماً بيان جنيف المؤرخ 30 حزيران 2012 الذي يحدد عدداً من الخطوات الرئيسية بدءاً بإنشاء هيئة حكم انتقالي تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، وتُشكل على أساس التوافق).

ثم جاء القرار رقم 2254 الصادر

بالرجوع إلى مجريات الأحداث، نجد أنّ القرارات الدولية قد تمّ تجاوزها على أرض الواقع من خلال تغيير المعطيات الميدانية

عن مجلس الأمن بتاريخ 18-12-2015 الذي نصّ في فقرته الرابعة على:

(...... يعرب عن دعمه، في هذا الصدد، لعملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة وتقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولاً زمنياً وعمليةً لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملاً بالدستور الجديد، في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.)

بالرجوع إلى مجريات الأحداث، نجد أنّ القرارات الدولية قد تمّ تجاوزها على أرض الواقع من خلال تغيير المعطيات الميدانية أولاً، ومن خلال تشتيت مسار العملية السياسية من قيادة الجامعة العربية إلى قيادة الأمم المتحدة إلى قيادة ثلاثي الدول الضامنة ثانياً، ومن خلال انخراط العديد من القوى الدولية والإقليمية في الصراع بشكل فعلي ومباشر ثالثاً، ونعرف جميعاً كيف تمّ ذلك ومراحله المتعاقبة.

تنظر الأطراف المتعددة إلى اللجنة الدستورية السورية بطرق مختلفة تبعاً للمصالح الخاصة بها واستناداً إلى أوراق القوّة التي تملكها. لا أحد يمكنه الجزم مسبقاً بالنهايات والنتائج، خاصّة أننا دخلنا الآن في لجّة بحر الظلمات قبل أن نتعلّم السباحة كما نصحنا وليد المعلّم ذات يوم. يمكن فقط وفي أفضل الأحوال، التكهّن بسيرورة الأحداث القادمة من خلال الإجابة على الأسئلة التالية:

  1. ما هي صلاحيات اللجنة الدستورية؟
  2.  ما هي حدود تفويضها الأممي؟
  3. ما هي آليات عملها؟
  4.  ضمن أية بيئة ستعمل؟
  5. ما هي قوّة قراراتها، وكيف سيتمّ تنفيذها؟
  6. هل هناك جدول زمني واضح ومحدد لإنجاز مهامها؟
  7. هل هناك ضمانات دولية من أي نوع كان حول اللجنة وعملها ومخرجاتها؟

بكلّ واقعية أوضح الدكتور نصر الحريري عدم وجود ضمانات من أي نوع كان لمسار العملية السياسية، كما أنه توقع أن يبدأ النظام عملية عسكرية في إدلب لتعطيل مسار وعمل اللجنة الدستورية، ونبّه إلى سياسة النظام المعروفة بالمماطلة والتسويف والتعطيل، وأبدى تفهّم هيئة التفاوض لكلّ المحاذير والاعتراضات على هذه اللجنة، كما أوضح أنّ الهيئة في حوار دائم مع طيف واسع من كتل المعارضة السورية والقوى الثورية المدنية والعسكرية حول هذا الشأن. لكنّه بالمقابل اعتبر أنّ إقرار اللجنة الدستورية نصراً للسوريين جميعاً، وأكّد أنّ الهيئة تَعِدُ وتتعهّدُ بعدم التنازل عن أي مطلب من مطالب الثورة، واعتبر أنّ تشكيل اللجنة الدستورية مجرّد حلقة صغيرة في سلسلة طويلة جداً، لا بدّ من استكمالها قبل التمكّن من القول بأننا بدأنا عمليّة الانتقال السياسي الحقيقي في سوريا.

 

ونحن نتساءل الآن: هل يعني التوافق على إنشاء اللجنة الدستورية، أننا وصلنا إلى حلّ أو إلى بداية حل للاستعصاء السوري؟  وهل هي المرّة الأولى التي يتوافق فيها الأعضاء الفاعلون في المجتمع الدولي على بدء مسار الحل السياسي في سوريا؟ الحقيقة الواضحة - لأغلب السوريين على الأقل- أنّ مشكلتنا في سوريا لم تكن في أي يومٍ من الأيام مشكلة دستور، بل هي أكبر من ذلك بكثير.

يعرف أغلب السوريين أنّ سوريا ليست دولة، بل هي سجنٌ كبير مُحاطٌ بأسوار عالية من الرعب، محروسٌ بأجهزة أمنيّة ذات مرجعية واحدة، يأتمر بأمرها جيش لا وطني. لا يوجد في سوريا مؤسسات للدولة، ما نشاهده مجرّد قشرة رقيقة جدّاً تقبع تحتها دولة أخرى بكلّ معنى الكلمة. لا وجود في سوريا لبرلمان أو لسلطة قضائية أو لعمل نقابي أو لنشاط حزبي أو لفضاء سياسي أو حتى لمجرّد عمل اجتماعي خيري بسيط خارج قبضة وإدارة أجهزة المخابرات.

لو افترضنا أنّ اللجنة الدستورية قد أخرجت لنا أفضل دستور يمكن تصوّره، ولو افترضنا أنّ الاستفتاء عليه جرى برعاية كاملة ومباشرة من الأمم المتحدة ضمن بيئة آمنة بشكل مطلق، ولو افترضنا أنّ الانتخابات القادمة قد تمّت بكلّ نزاهة وحيادية وإنصاف، واشترك

هل يتصوّر أيّ عاقل أنّ أجهزة الأمن ستحلّ نفسها تلقائياً، أو أنّ قادة الفرق والألوية سينفذون أوامر الرئيس المنتخب أو مجلس الوزراء؟

فيها جميع السوريين المقيمين في الداخل والخارج وفي كل مكان، ولو افترضنا أنّ من فاز بها ليس بشّار الأسد بل شابّة أو شابّ سوريّ تتمتّع أو يتمتّع بأعلى درجات العلم والأدب والثقافة والأخلاق، ومن أصحاب الخبرة الواسعة في السياسة والعلاقات الدولية والإدارة، ولو افترضنا أننا استطعنا انتخاب نوّابٍ حقيقيّين للبرلمان، وممثلين حقيقيّين للمجالس المحليّة، فكيف لنا أن ننقل لهم السلطة الفعلية؟

هل يتصوّر أيّ عاقل أنّ أجهزة الأمن ستحلّ نفسها تلقائياً، أو أنّ قادة الفرق والألوية سينفذون أوامر الرئيس المنتخب أو مجلس الوزراء، وهل يمكن أن يسلّم أمراء الحرب أسلحتهم ويحلّوا ميليشياتهم، وهل يمكن أن يقبل أصحاب الاحتكارات وتجّار الدماء بالتنازل عن امتيازاتهم، هل سيخرج الروس من سوريا بناءً على مطالبة يفرضها البرلمان الجديد، هل سينسحب الإيرانيون وميليشياتهم لمجرد الطلب منهم ذلك، هل سيسلّم حزب العمال الكردستاني أسلحته، هل سينسحب الجيش التركي من مناطق شمال سوريا، هل ستحلّ جبهة النصرة وتنظيم حرّاس الدين وغيرها من الميليشيات المسلّحة أنفسها بأنفسها،هل وهل وهل؟

هذا يعني بالضرورة أننا بحاجة لمعجزة حقيقية، حتى ننتج تغييراً في بنية وهيكلية النظام السياسي في سوريا وفي تغيير الواقع الحالي، من خلال نفس الأدوات والأجهزة التي يُحكم بها البلد منذ انقلاب البعث في 8-3-1963. بالأحرى هذا من المُحال، ولم لا يكون كذلك وقد خرج علينا اليوم بشّار الجعفري في مجلس الأمن بتصريحات ينسبُ فيها الفضل في إنشاء اللجنة الدستورية، لحكمة وشجاعة القائد الرمز بشار الأسد!

يمكن فقط أن نصل إلى نتيجة حقيقية، إذا توافقت الدول الفاعلة في الملف السوري على خطّة واضحة المعالم، لوضع جميع البنود الواردة في القرارات الدولية موضع التنفيذ الفعلي، وبنيّة صادقة مدعومة بالقوّة من أجل تحقيق الانتقال السياسي المنشود، أو إذا تمّ ذلك بموجب قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع، وفي كلتا الحالتين لا يوجد أيّة ضمانات لتحقيق النتائج بالشكل الأمثل. من دون وجود إرادة دولية صادقة وحازمة، ومن دون قوّة تنفيذية تفرض هذه الإرادة على الجميع، لا يمكن أن يحصل انتقال سياسي حقيقي في سوريا، وإذا لم يحصل التوافق بين الفاعلين الدوليين الكبار، فإنّ الفيتو الروسي بالمرصاد لأية مشاريع حلّ تُقدّم لمجلس الأمن.

عندها سيبقى النظامُ كما هو، وقد يعيدُ المجتمعُ الدولي التعاملَ معه على اعتبار أنّه فاز بالحرب من جهة، وعلى اعتبار أن السوريّين أنفسهم قد توصلوا إلى هذه النهاية من خلال جلوسهم على طاولة المفاوضات. ستبقى بعض الملفات العالقة، والتي من الممكن حلّها مع الزمن، مثل ملفات اللجوء وإعادة الإعمار، أمّا ملفُ المعتقلين والمختفين قسريّاً، فلن يكون أكثر من ورقة ضغط على النظام للحصول على بعض التنازلات في هذا الملف أو ذاك. لن تمرّ البلاد بأية مسارات للعدالة الانتقالية، لن تتم محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، ولا جبر ضرر الضحايا، ستتضاعف أسباب الثورة القادمة آلاف المرّات عمّا كانت عليه قبل عام 2011.

يرى بعضُ السورييّن من الغيورين على المصلحة الوطنية، أنّ النظام بات بمنزلة حكومة تصريف أعمال لحين انتهاء مسار اللجنة الدستورية، التي هي بداية طريق الانتقال السياسي. حسناً، سيكون إذن كذلك للخمسين عاماً القادمة، إذ لطالما كان هذا النظام سلطة أمرٍ واقع لا تتمتّع بأية شرعية دستورية أو أخلاقية أو شعبية، فما الذي سيضيره لو بقي كذلك نصف قرن آخر؟

صحيح أنّ البلاغة إيجاز، لكن مع المأساة السورية التي تمخّضت بعد طول معاناة عن لجنة دستورية، لا بدّ من الاستفاضة ولو على حساب اللغة والبيان.