هل تصلحُ الديمقراطيةُ دواءً للعنصرية؟

2023.09.23 | 07:18 دمشق

آخر تحديث: 23.09.2023 | 07:18 دمشق

هل تصلحُ الديمقراطيةُ دواءً للعنصرية؟
+A
حجم الخط
-A

كم هو مؤلمٌ هذا التصاعدُ الكبيرُ للعنف النفسي والجسدي الممارس ضدّ العرب وغيرهم من الأجانب في تركيا، وخاصّة ذلك الموجّه ضدّ السوريين. باتت الظاهرة تؤرّق الكثيرين منّا ومن الأتراك أنفسهم، فارتفاع منسوب الكراهية هناك أصبح خطيرًا لدرجةٍ تُنذر بعواقبَ وخيمةٍ ليس على المستضعفين من اللاجئين أو على الأجانب فحسب، وليس على الاقتصاد التركي الذي يمرُّ بأزماتٍ متتالية لا يشكّل هؤلاء سببًا موجبًا لها بكلّ تأكيد، بل وعلى بنية المجتمع التركي ذاته أيضًا. يبني هذا العنفُ ويولّدُ ذلك الغضبُ أسوارًا عالية وجدرانًا صمّاء بين المواطنين الأتراك والغرباء من جهة، وبين فئات المجتمع التركي ذاته من جهة ثانية. تخلق العنصرية عمًى أخرق، تعزّزُ انحيازًا جاهلًا، تصلّبُ مفاصلَ في الجسد التركي يجب أن تبقى مرنة، وتسدّ شرايين يجب أن تبقى مفتوحة. توسّع العنصرية الشروخ بين فئةٍ ترى في التنوّع قيمةً نوعيّةً من شأنها إثراء المجتمع، وفئةٍ متعصّبةٍ ترى في كلّ ما هو غير تركي خالصٍ شرًا مستطيرًا وعنصرَ تهديدٍ مستدامٍ وبؤرة توترٍ مُركّزة.

ورثت تركيا الحديثة تركةً هائلة من الإمبراطورية العثمانية، والأخيرة كانت إمبراطورية بكل معنى الكلمة، فكانت متسامحة ومتصالحة (وفق سياق التسامح المعقول والمقبول آنذاك) مع اعتبارات التنوّع القومي والعرقي والديني للرعيّة فيها. حافظ الاستمرار الزمني الطويل نسبيًا لكيان الإمبراطورية العثمانية على بنية الدولة، وكرّست بيروقراطيتها الإدارية إرثًا مؤسسيًا لم ينقطع حتى مع انهيارها وانتقالها من إمبراطورية إلى دولة قومية بالمفهوم المعاصر. لم تكن الحروب الداخلية والفتنُ ناتجة عن عوامل مُدْرَكَةٍ للتميّز القائم على العرق أو القوميّة، بل بُنيت في غالبيتها على أسس اقتصادية أو صراعًا على السلطة يتّخذ من الدين لبوسًا يتدثّر به. في العقود الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية، وبتأثّرٍ واضحٍ بموجات نهوض الشعور القومي في أوروبا وخاصّة ألمانيا، بدأت عملياتُ الإكراهِ تمارسُ على الرعايا استنادًا لقومياتهم، وكان العرب بالمناسبة آخر من ثار على الإمبراطورية بحكم وحدة الدين ربّما، فسبقهم الصرب والبلغار واليونانيّون والأرمن. من هنا بدأت عناصر الانغلاق التركي، واستمرّ نسيجها بالنموّ متغذّيًا على نُسغ العلمانيّة الصلبة المتوحّشة التي غرّبت البلاد قسرًا ونكّلت بالمجتمع التركي ذاته بذريعة التحديث.

في الصينِ التي تُعتبرُ أكبر ديكتاتورية على وجه الأرض الآن مع حكم الحزب الواحد، يعاني المسلمون الأيغور تحت وطأة التمييز الممنهج والمدعوم بالقانون وسلطة مؤسسات الدولة وأجهزتها القمعية

في كل مجتمعٍ ثمّة عنصرية من نوعٍ ما، يتأثّر منسوبُها وتتحددُ طبيعتها تبعًا لعوامل كثيرةٍ منها التاريخُ والجغرافيا والدينُ والاقتصاد، ويلعبُ الأخيرُ دورًا مهمًا في تأجيج الصراعات على أسس عنصرية، ففي أوقات الضنك يبدأ الناسُ بتحميل المسؤوليات لغيرهم المختلفين عنهم من ضيق حالهم، بينما في أوقات الوفرة لا يهتمّ أحدٌ بالآخرين ولا ينظر لما في أيديهم. ولكن ما هي الضوابط الحقيقية التي يجعلُ غيابُها مجتمعًا ما ينفلتُ من كلّ عقالٍ في عنصريّته، ووجودها يكبح ذلك؟ هل هو القانون أم السلطة السياسية؟ وكيف يمكن للديمقراطية أن تقبل العنصرية وتبررها؟

في الصينِ التي تُعتبرُ أكبر ديكتاتورية على وجه الأرض الآن مع حكم الحزب الواحد، يعاني المسلمون الأيغور تحت وطأة التمييز الممنهج والمدعوم بالقانون وسلطة مؤسسات الدولة وأجهزتها القمعية. لكن بالمقابل، في الهند التي تعتبر أكبر ديمقراطيّة في العالم من حيثُ التنوّع الهائل للأديان والأعراق والقوميات الموجودة فيها، يعاني المسلمون الهنود أيضًا تمييزًا لم يبدأ مع حزب بهارتيا جاناتا الحاكم الآن، لكنّ العنصريّة ضدّهم أصبحت منهجًا مدعومًا من مؤسسات الدولة ذاتها! في الصين لم يحمِ القانون المسلمين من التمييز، وفي الهند لم تحمهم الديمقراطية، ففي كلتا الدولتين شكّلت السلطة السياسية العامل الحاسم في هذا الاضطهاد.

بالعودة إلى العنصرية المتنامية في تركيا ضدّ الأجانب والسوريين منهم خاصّة، تحضرُ المقارنة مع مصر بشكل تلقائي، فهذه الأخيرة ورثت أيضًا دولة مركزيّة ممتدّة آلاف السنين، وإذا أردنا عدم الشطط في المبالغة بهذا الجانب يمكننا أن نعود إلى عهد محمد علي الكبير على الأقل. وحتى عندما خضعت مصر للاحتلال البريطاني، فإنّ الدولة المصرية لم تنقطع عن بيروقراطيتها الإداريّة، بل تحدّثت نظمها بشكل أو بآخر. فلماذا لا نجدُ هذه العنصريّة ضدّ الآخرين في المجتمع المصري؟ ولماذا لم نسمع عن أي حالة من ذلك تجاه السوريين رغم أنّ أعدادهم هناك تفوق المليون لاجئ ومهاجر؟ هل نظامُ الحكم في مصر يستندُ إلى شرعية ديمقراطية كما في تركيا، وهل يسودُ القانون هناك أكثر مما يسود في تركيا؟ الحقيقة لا هذا ولا ذاك على الإطلاق.

لم يجد المجتمعُ التركي نفسه بعد، ولم يستطع أن يعرّف ذاته بدلالة ذاته، بل بالتّضاد مع الغرب والشرق، مع الأوروبيين بدءًا من اليونان ومع المسلمين بدءًا من العرب

قد يكون للتاريخ هنا دور أكبر يلعبُه، فعلى مرّ خمسة عشر قرنًا من تاريخ المنطقة بعد ظهور الإسلام ارتبطت سوريا ومصر بعلاقات مميّزة جعلت من قرب شعبيهما أمرًا مفروغًا منه. هناك عامل العروبة أيضًا، وهناك الهُويّةُ المصريّة الناجزة، والطيبة الفطريّة للمصريين الذين كانوا على الدوام مكتفين بتعريف أنفسهم بدلالة ذواتهم دون الحاجة للتضادّ مع غيرهم من الأقوام والشعوب. على العكس من ذلك، لم يجد المجتمعُ التركي نفسه بعد، ولم يستطع أن يعرّف ذاته بدلالة ذاته، بل بالتّضاد مع الغرب والشرق، مع الأوروبيين بدءًا من اليونان ومع المسلمين بدءًا من العرب. انقسم المجتمع التركي مع صعود التركيّة الطورانية قسمين، واحدٌ ما زال يحلمُ بالطوطمية والشامانية والمانوية والزرادشتية رغم اعتناقه الإسلام منذ ألف عام، وآخر يتطلّع إلى برج إيفل بديلًا عن برج غلطه سراي! وإلى أن يجد الأتراك أنفسهم لن تحميهم الديمقراطية ولا العلمانية ولا القانون من العنصرية، كما لن يحمي ذلك الأجانب منهم، الفيصل هو قبول الذات قبل قبول الآخر.