تعديل قانون الأحوال المدنية.. كلمة حق يراد بها باطل

2023.07.17 | 05:09 دمشق

تعديل قانون الأحوال المدنية.. كلمة حق يراد بها باطل
+A
حجم الخط
-A

تسعى الدول في طور نشوئها إلى سن قوانين تتناسب مع شكل الدولة المراد اعتماده، مراعية بذلك تنوع شرائح المواطنين الاجتماعية والعلمية والثقافية، ويأتي ذلك بعد دراسات مطولة عن طبيعة الدولة وطبيعة المجتمع وأهمية انعكاس تلك القوانين على تطوره، على أن يراعي ويترافق أي تغيير في القوانين بحيث يكون مدروساً ليتناسب مع تغير طبيعة أفراد المجتمع، وهو أمر لا يمكن لعاقل أن يلحظه في حملات التعديل المستمرة التي يصدرها النظام السوري بشكل عبثي وفوضوي، وغير مخطط له إلا بناء على مصالح واعتبارات لا تمسّ المواطن وقد لا تعنيه.

يستمد القانون جوهر قوته من كونه وسيلة لحماية المواطنين وركناً أساسياً لتنظيم أوضاعهم وشؤون حياتهم الشخصية والعملية، وعلى الرغم من أهمية أن يكون القانون مرناً وقابلاً للتعديل في حال اقتضت الحاجة، فإن المشكلة تحدث في حال أصبح القانون بحد ذاته غير مستقر وعرضة للتعديل كلما تغيرت المصلحة.

يستغل نظام الأسد عدم معرفة السوريين بالقانون، وعدم امتلاكهم الوقت لمتابعة الحلقات المتواصلة من التعديلات التي يواظب على نشرها، وبالتالي صعوبة تَبيُّن ما يحيكه وفق ما يناسب الأجندة التي تُملى عليه.

القرار الذي أصدره رأس النظام بشار الأسد باعتبار سوريا دائرة نفوس واحدة، قرار غريب من ناحية التوقيت والمناسبة، ولا يمكن القول سوى أنه يخدم هدفه بطمس هوية البلاد الثقافية والاجتماعية

ما يحدث اليوم على الساحة السورية من تعديل مستمر ومتلاحق للقوانين، لا يمكن وضعه إلا في إطار الفوضى المدمرة التي تسلب السوريين دولتهم التي دفعوا كثيراً لتحقيق استقلالها وبناء مؤسساتها من قبل أن يستولي الأسد الابن أو حتى الأب على السلطة.

القرار الذي أصدره رأس النظام بشار الأسد باعتبار سوريا دائرة نفوس واحدة، قرار غريب من ناحية التوقيت والمناسبة، ولا يمكن القول سوى أنه يخدم هدفه بطمس هوية البلاد الثقافية والاجتماعية، وعلى الرغم من أن وجود رقم الخانة أو عدمه ليس هو المغزى ولا الهدف لأنه من الممكن ببساطة الاكتفاء بوجود رقم وطني لكل مواطن، وصحيفة سجل مدني تسجل فيها الواقعات المدنية، غير أن التوقيت هو ما يترك باب التشكيك مفتوحاً.

"يعد التعديل الأخير أحد لوائح قانون الأحوال المدنية الذي أصدره بشار الأسد، في 2021 بديلاً عن قانون الأحوال المدنية الصادر عام 2007 وتعديلاته.

ويهدف القانون رقم (13) لعام 2021، بحسب ادعائهم إلى تطوير عمل الأحوال المدنية بما يتلاءم مع التطورات الجارية ونظام الأتمتة، من خلال مشروع “أمانة سوريا الواحدة” الذي يوحّد أمانات السجل المدني المنتشرة في المحافظات السورية ويجعلها أمانة واحدة، تضم قاعدة بيانات إلكترونية تربط جميع المحافظات وتحوي قيود جميع السوريين، بحيث يتيح القانون تسجيل واقعات الأحوال المدنية إلكترونياً وبشكل مباشر أينما حدثت في أي مركز سجل مدني بسوريا، بعد أن كان يشترط تسجيلها في أمانة القيد الأصلي وفق القانون الصادر عام 2007".

وعلى الرغم من تحذيرات الحقوقيين التي ارتأت أن ذلك حلقة في سلسلة التغيير الديمغرافي، بعد حالات تجنيس للمقاتلين المرتزقة من إيران وأفغانستان وروسيا وهو أمر حقيقي، فقد كان من الممكن أن يكون له ثمار أخرى بحيث تمهد لوجود الوحدة الوطنية الحقيقية بين السوريين بدلاً من النهج الذي اتبعه سابقاً ببث نوازع الفرقة وزرع بذور الفتنة بينهم طوال عقود.

أما فيما يخص تسجيل نسب الابن لوالدته في حال تعذر معرفة الأب فهو أيضاً تشريع له ضرورته، لكنه فضّل سنّه أيضاً في وقت فرضت عليه الحاجة أن يسنّه بعد انتشار ثقافة الزواج غير المسجل قانوناً في المحاكم المختصة التي يتعذر فيها من إثبات النسب للوالد، وعلى أن ذلك من أهم حقوق الطفل الذي لا ذنب له في شكل العلاقة بين الأب والأم، فقد كان من الأدعى أيضاً أن يسنه في وقت كانت الحاجة فيه ضرورة ملحة بعد حالات الاعتداءات الجنسية المتكررة التي ارتكبها مرتزقة النظام بحق النساء بعد اقتحام بيوتهم، أو بعد حالات الاغتصاب الممنهج من طرف ضباط الأمن للنساء في أقبية المعتقلات، أو بعد ازدياد الوفيات والمفقودين أو التغييب القسري أو الهجرة من البلاد وتحميل النساء العبء الأكبر في تربية وتنظيم شؤون وتنفيذ إجراءات تسجيل الولادات والتعامل مع المدارس والمستشفيات وغيرها.

النقطة الإجرائية الأهم في مسألة إلغاء الخانات من قيود السجلات المدنية أنه كان من الممكن إلغاء بند الخانة تماماً من القيود لا إهماله فحسب، إذ إنها ستبقى موجودة لغاية غير واضحة ولكن في حالة جمود، ولا تظهر في حال استخراج الأوراق الثبوتية، لكنهم قادرون على استخدامها فيما بعد لأغراض أمنية، ولو كانت الغاية توحيد الخانة مثلما يدّعون لكان من الأفضل إسقاط بند الخانات تماماً والاكتفاء بالرقم الوطني، لتجنب ظهور مشكلات تقنية تتعلق بأوضاع النساء في حالات الزواج والطلاق فيما بعد.

لا يبدو أن ذلك الإجراء يختلف عن الإجراءات التي يتبعها نظام الأسد منذ توليه السلطة، فمن تعديل الدستور مروراً بتعديل مستمر ومتكرر لقوانين مختلفة وصولاً إلى كثافة إصدار قوانين جديدة، وهو نظام شبه رئاسي لا هو برئاسي ولا هو برلماني، ويدعي العلمانية في حين يطبق قوانين غير مدنية، بمعنى أنه يختار خليطاً من القوانين غير المتجانسة التي لا تؤسس لشكل دولة معين بل تتوافق مع أسلوب إدارة المافيا التي تسيطر على سوريا.

ربما يعجز كثيرون منا عن إدراك ذلك ونحن في داخل الصورة، لكننا ما إن تقدر لنا النجاة ونتمكن من رؤية الصورة من الخارج، ندرك حجم الأذى الذي سببته لنا تلك السلطات على مدى عقود

تدعم الدول المستبدة قوتها الداخلية مستفيدة من جانبي الجهل والجوع، وهما كارثتان باستطاعتهما تدمير أكثر الدول وأعظمها حضارة.

ربما يعجز كثيرون منا عن إدراك ذلك ونحن في داخل الصورة، لكننا ما إن تقدر لنا النجاة ونتمكن من رؤية الصورة من الخارج، ندرك حجم الأذى الذي سببته لنا تلك السلطات على مدى عقود.

اليوم ندرك _نحن السوريين_ أننا محكومون بالاستبداد وأننا فقدنا كثيراً من القدرة على المحاكمة والنقد والرفض، وأننا مضطرون إلى مواصلة المسير في دوامة من القهر والجوع والحرمان والجهل والتشرد، ويبدو أن نظام سوريا الحالي استساغ ابتلاع البلاد ولم يعد وجودنا مزعجاً فحسب بل أصبح عبئاً يحاول جاهداً التخلص منه، واستبدالنا بحشود مؤيدة يغريها بسن قوانين وتشريعات تتناسب مع الشعب الجديد.