تشريح السلطوية في الجمهوريات العربية

2022.06.05 | 05:39 دمشق

alrby-alrby-khartt-tryq-llmstqbl-min-780x405.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحاول كتاب "تشريح التسلطية في الجمهوريات العربية" الصادر بالإنكليزية عام 2019 لمؤلفه جوزيف ساسون وهو أستاذٌ مشاركٌ ويشغل منصب رئيس كرسي الصباح في السياسة والاقتصاد السياسي في العالم العربي في جامعة جورجتاون واشنطن، والذي سيصدر بالعربية قريبا عن المركز العربي.

يحاول الكتاب السؤال عن وجود تشابهٍ / أو عدم وجوده بين الأنظمة التسلطية العربية خاصة تلك التي شهدت ثورات في عام 2011، رغم حكمها من قبل جمهوريات وليس ملكيات. وبالطبع، فإن الوصول إلى إجابةٍ مثلى للسؤال المطروح يتطلب بطبيعته التوسع بدراسة المزيد من أراشيف (أو أرشيفات) الأنظمة السلطوية العربية. إلا أنَّ تعذر وصول الباحثين إلى تلك الأراشيف لسوء الحظ، جعل المؤلف يعكف على دراسة مذكرات الشخصيات المحورية في تلك الأنظمة: من أمثال القادة السياسيين، الوزراء، الجنرالات، رؤساء وكالات الأمن، الأعضاء الحزبيين، بالإضافة إلى رجال الأعمال المقربين من مركز السلطة. بالإضافة إلى دراسة مذكراتِ شخصياتٍ من خارج السلطة: كالمعارضين والسجناء السياسيين، آملاً بأن يكون هذا الجمع بين المجموعتين –لمن هم داخل السلطة وخارجها- كفيلاً للمساعدة في محاولة الإلمام بحكومات الاستبداد الجبرية العربية في ظل تعذر الوصول إلى أراشيفها الموصدة. فبالطبع، شكلت السِّرية العنوان العام لهذه الأنظمة فيما كانت المعارضة تقابلُ بشديد العقاب الأمر الذي يحول دون يسر وسهولة الحصول على معلوماتٍ موثوقة.

يمكن للمذكرات أن تلعب دوراً في سد الفجوة بشكلٍ جزئي، من خلال كشفها عن آلية العمل الداخلي لعددٍ من المنظمات مثل الجيش أو القوى الأمنية

وكما أشارت ليزا آندرسون(Lisa Anderson)  فإن أحد الأبعاد المتعلقة بالنظام الاستبدادي تتمثل "بافتقار كلٍ من الحكام والمحكومين لمصادر موثوقة" للمعلومات والتي من شأنها دعم القيام بعملية اتخاذ قراراتٍ سليمة. وعلى كل حال يمكن للمذكرات أن تلعب دوراً في سد الفجوة بشكلٍ جزئي، من خلال كشفها عن آلية العمل الداخلي لعددٍ من المنظمات مثل الجيش أو القوى الأمنية، كما قد تكسبنا ما هو أثمن من ذلك من خلال تسليط الضوء على طريقة تفكير القيادات في تلك البلدان وعلاقاتها مع شركائها.

هذا ويتطرق الكتاب لطيفٍ واسع من الأسئلة؛ كيفية عمل هذه الأنظمة المتنوعة؟ بماذا تمثل دور الحزب الحاكم في البلدان ذات التعددية الحزبية كمصر وتونس؟ إلى أي مدىً تم استخدام العنف والقمع؟ وكيف سيطرت أجهزة الأمن على المعارضة وتمكنت من احتواء باقي الجماعات المؤثرة كاتحادات العمال والطلبة؟ كيف تمت هيكلة الجهاز التنفيذي؟ وكيف كان يتم اتخاذ القرارات؟ هل ثمة أي تشابهٍ بين شعبوية وتمجيد شخص صدام حسين وشعبوية وتمجيد حافظ الأسد في سوريا أو الحبيب بورقيبة في تونس؟ كيف اختلف التخطيط الاقتصادي؟ وكيف كانت تلك الأنظمة تعالج أزماتها الاقتصادية؟

يعتمد هذا الكتاب نهجاً مواضيعياً بدلاً من تخصيص فصلٍ لكل جمهوريةٍ. ولا يسعى لتقديم مراجعةٍ تاريخية للأحدث بل لتسليط الضوء على عددٍ من المحطات والمنعطفات في ضوء ما تكشفه المذكرات. مستهلاً فصوله بالثورة المصرية لعام 1952 لينتهي بالانتفاضات العربية في عام 2011، كما يخصص فصله الأخير لمناقشة عملية التحول الصعبة عن السلطوية والتي بدأت بعد عام 2011.

لقد استفاد عددٌ من الميادين التخصصية كالأنثروبولوجيا والأدب مثلاً، استفادة ًكبيرةً من المذكرات في المنطقة، بيدَ أنه لا يتم، على الرغم من ذلك، تداول المذكرات كمصدرٍ أساسي في التاريخ والسياسة المعاصرين على نطاقٍ واسع، وبشكلٍ أخص فيما يتعلق بدراسات العالم العربي. وبالمقارنة مع مناطق أخرى، فقد كان المؤرخون أسبق تنبهاً لقيمة المذكرات كمصدرٍ أساسي. بيدَ أنه وبضوء شح المصادر الأرشيفية في العالم العربي فمن شأن المذكرات أن تصبح أداةَ رئيسيةً في دراستنا لهذه البلدان. ومن الجدير بالذكر، تعنتُ الحكومات التي وصلت للسلطة في تونس عقب سقوط بن علي في عام 2011 حول رفع السرية عن الأرشيف الوطني خشية أن يتسبب ذلك باضطراباتٍ في البلاد. فقد أشار أحد التقارير إلى تعمد عددٍ من الوزارات إضرام النار بالملفات. وفي ليبيا، فمن المفترض أن الأرشيف لا يزال محفوظاً بحالةٍ جيدة، إلا أنه لا يزال من غير الواضح ما هي الجهة التي تسيطر عليه. وحتى لدى دراسة البلدان السلطوية الأخرى، في مختلف أنحاء العالم، والتي أفرجت عن أراشيفها كروسيا مثلاً، فغالباً ما ينهي الباحثون دراستهم بإجراء تفحصٍ دقيق للمذكرات لتلمس التيارات الخفية في المجتمع، واستطلاع صورة النظام في صفوف كلٍ من الحكومة والمعارضة على حد سواء.

بالإضافة إلى العديد من الشهادات التي تم نشرها مؤخراً من تونس. فهذه الشهادات والتي تم البدء بجمعها بعد الثورة التونسية، تكشف لنا معلوماتٍ مهمة عن العوالم الخفية للسجون والتعذيب الذي كابده جمعٌ من معارضي النظام السابق على اختلاف معتقداتهم الدينية والسياسية. فقد تمحورت الأسئلة الجوهرية التي تطرقت لها تلك المذكرات حول هوية مؤلفيها، ومتى وأين تم نشرها، ومن كان جمهورها الأساسي.

المذكرات التي قام هذا الكتاب بدراستها ليست متوزعةً بشكلٍ متماثلٍ بين الجمهوريات الثماني. حيث يوجد في السودان مثلاً، عددٌ قليلٌ من الشخصيات السياسية الفاعلة بمقابل وفرة أعداد هؤلاء في مصر

ومما لا شك فيه، اشتمالُ هذه المذكرات بدورها على جملةٍ من المآخذ الهامة، حيث تمت كتابة العديد من تلك المذكرات بعد مغادرة مؤلفيها لمناصبهم المميزة، أو حتى بعد مغادرتهم لبلدانهم في بعض الحالات. أضف إلى ذلك أن ما يتذكره هؤلاء المؤلفون، والأسباب وراء ذلك، عرضةٌ للتغير مع تغير الزمن، وهي اعتباراتٌ محكومةٌ بالذاكرة السياسية. وللأسف، فإن المذكرات التي قام هذا الكتاب بدراستها ليست متوزعةً بشكلٍ متماثلٍ بين الجمهوريات الثماني. حيث يوجد في السودان مثلاً، عددٌ قليلٌ من الشخصيات السياسية الفاعلة بمقابل وفرة أعداد هؤلاء في مصر.

هذا وقد تمحور العديد من تلك المذكرات حول الأحداث الرئيسية كالحروب ومفاوضات السلام والعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية أو الاتحاد السوفيتي. غير أنه من اللافت قيام هذه المواضيع بتسليط شيءٍ من الضوء على آليات العمل الداخلية. أضف إلى ذلك عدم تطرق المذكرات المذكورة للدور الذي لعبته القوى العظمى في المنطقة في تعزيز استمرارية هذه الأنظمة على الصعيد الداخلي.