بيادقُ الحلم السوري و"عقيدة المهزوم"

2022.09.14 | 07:10 دمشق

بيادقُ الحلم السوري و"عقيدة المهزوم"
+A
حجم الخط
-A

انطلاقاً من مبدأ "العين لا تقاوم المخرز"، تميّز سوريّو ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بصفةِ "المواطن المهزوم"، لا سيما النخبة المثقفة التي حضرت ووعت تلك "الأيام العصيبة". أجيال انكفأت على نفسها، ومازالت حتى اليوم تتجرّع كأس الهوان. وإن كان البعض حلّل الواقع وكشف المستور عن خلفيات "الهزيمة الوطنية" بعد انقلاب عام 1963، لكنها بقيت مجرّد تحليلات بلا غاية، وبلا هدف علاجي محرّك يؤجج المشاعر ويحرّضها على قيامةٍ جديدة.

في المقابل ثمّة جيل سوري نشأ في أحضان الحداثة، بعيداً عن جعجعة الخطابات الرنانة والانتصارات الزائفة. كاد يشارك البشرية بانتمائه إلى كوكب الأرض، لا إلى بقعة جغرافية صغيرة، أو هوية دينية بعينها، أو إرث حضاري بائد.

جيل الانفتاح، هذا، الذي آمن بالهوية الوطنية العابرة للقوميات والطوائف والأديان تجاهل الشعارات الكبيرة، ومحاربة الاستعمار، والقضاء على إسرائيل، والدعوة لحروب التحرير، وغيرها من الدعوات "الزئبقية" التي سادت قبل عقود. فالسكوت على نمط الحياة المتكلسة لم يعد ممكناً. يدرك جيداً أنّ هذه الدعوات الاحتفالية مجرّد "امتصاص لغضب الشارع"، فتحولت لديه إلى "طقوس مكروهة عرفاً"، لا تعيد إلى الذاكرة إلاّ "المرارة"، بل إنها شكلت مع مرور الوقت بؤرة سامة مهمتها بثّ الرسائل الممنهجة للنفس السورية المهزومة.

من هنا ليس من المبالغة القول إنّ المنطقة، برمتها، والتي باتت تعيش تحولات تاريخية كبرى، ستجعل سوريا تحت تأثير جيل الشباب الذي سيحاول تغيير الخريطة الوطنية، اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وهذا هو بالتأكيد، جوهر الحداثة المعاصرة.

مشاركة الشباب في ميدان السياسة باتت هزيلة مع الوقت، إن لم تكن معدومة، فضلاً عن ضعف الثقافة والوعي السياسي الذي ينتشر بين أروقة الجيل اليافع

بطبيعة الحال ساهمت الثورة السورية، وهي ذات طابع شبابي بامتياز، في عودة جيل الحداثة إلى الانخراط في السياسة وقضايا الشأن العام. لكن الأحلام الجامحة في تغيير الواقع، اصطدمت بعوائق عدّة، وأسهمت في عزوف قسمٍ كبير من الشباب عن المشاركة السياسية ليتحوّل إلى لعب دور المشاهد فقط، أسوة بمن سبقه. وعليه نستطيع الجزم بأنّ الشباب السوري لم يعش تفاصيل "حرب الأيام الستة"، على سبيل المثال، لكن من الواضح أنه عايش "نتائج" و"انعكاسات" الحرب السورية بعد عام 2011، على كافة الأصعدة، النفسية منها خاصة، لتعود "عقيدة المهزوم" وتتمكن منه، فيكون رهينة لنظامٍ سرطاني يصعب الشفاء منه.

لنكن أكثر واقعية، ونتفق على أنّ مشاركة الشباب في ميدان السياسة باتت هزيلة مع الوقت، إن لم تكن معدومة، فضلاً عن ضعف الثقافة والوعي السياسي الذي ينتشر بين أروقة الجيل اليافع، نتيجة لنقص الخبرات وضعف المورثات الفكرية والثقافية التي يجب أن تُزرع في هذه الفئات مبكراً، لترقى للعمل في ميدان السياسة، ويبدو ذلك جليّاً وعملاً ممنهجاً ومنظّماً لجعل تلك الفئات تتخبّط أكثر فأكثر، ما يسهم في ضياعها وتشرذمها الفكري والأيديولوجي.

كلّ ما سبق أنذر، ومنذ البداية، باستمرار سياسة "استغلال الشباب"، عبر جعلهم بيادق تخدم العديد من التنظيمات الراديكالية المحافظة، الإسلامية منها والعلمانية، وعدم إتاحة الفرصة لهم. ليترسخَ "الانعزال" بين الحقيقة والواقع، وتتحول معه "الهزيمة" إلى "نكسة" بالمصطلح، فيما ظلّ اليقين السوري المطلق يقول: بأن "السوريين هزموا، مجدداً، على يد ذات العصابة".

تختلف الأسباب وتتعدّد التفسيرات حول ما آلت إليه الأمور من تغييبٍ للفئات الشبابية، التي وجدت نفسها محاصرة بواقعٍ أشبه بتابوت يُضيّق خِناقهُ عليها أكثر فأكثر. فالمعارضون، معظمهم ينتمي إلى الجيل القديم، والمعارضة أخفقت في تحقيق أيّ مُنجزٍ سياسي أو مجتمعي يُذكر، نتيجة ضعف إمكانياتهم وأدواتهم، وحتّى اختلافات التفكير والمنهج، كذلك فشلهم في التصدّي للمهام والاستحقاقات التي تفرضها مجريات الأحداث التي تتغيّر يوماً إثر يوم.

بدوره، النظام السوري لم يدّخر جهداً في قمع جموح الشباب الحالم وتحطيم آماله. إذ تُعدّ الحرب النفسية التي وُجّهت من قبله أخطر بكثير من الحرب النفسية الموجهة من الدول المعادية، فأصبح جيل الشباب في حالة مريبة من الدفاع عن وجوده. الكلّ متّهم. من سأل أو حاول أن يفهم فهو محرّض ومشاغب، ومن كان على الحياد والتزم الصمت قد يكون خائناً يعمل بهدوء، ومن احتج وعلا صوته فهو مكدر للأمن والسلم الاجتماعي، ومن كان "إمعة" لا رأي له يتبع الركب، ينافق ويطبل، فهو الشاب الوطني المتعاون الذي يعمل للصالح العام.

بتاريخ 18 نيسان/أبريل 2022، أصدر الأسد القانون رقم 20 لعام 2022، الخاص بـ"الجريمة المعلوماتية"، ولا يخفى على أحد أنّ أهم الأسباب التي دفعته لإصداره، هي ازدياد حدّة النقد والسخرية والتهكم التي تتعرض لها الحكومة، "الغارقة في العسل"، بمختلف مستويات إداراتها، من قبل جمهور الشباب، خاصة مع انتشار ظاهرة "اليوتيوبر" التي كدرت صفو النظام، رداً على التصريحات والقرارت "العجائيبة" التي يتفنّن، (المسؤولون)، في بثّها على شكل سمومٍ قاتلة.

خذ مثالاً قريباً. أثار وزير التربية في حكومة النظام السوري جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد طرحه سؤالاً على درجة عالية من الغباء المستفزّ: "أيهما أفضل أن يدرس الطالبُ الطبَّ، ويقضي 12 سنة، ثم يسافر لألمانيا ويخدم الألمان، أم يدرس معهد مهني لمدة سنتين ويدخل سوق العمل بعمر 20 سنة ويحصد مليون ليرة شهرياً؟".

دعوة الوزير لترك دراسة الطب، تأتي مع قيام العديد من الأطباء، المتخرجين حديثاً، بتعبئة حقائبهم بشكل متزايد، والمغادرة إلى الخليج أو أوروبا. في المقابل نقيب أطباء ريف دمشق، أكد أنّ نزوح الأطباء السوريين وهجرتهم أمرٌ واقعي وصحيح، وأنّ دولاً مثل موريتانيا، والصومال، والسودان، واليمن، وهي في خضم حرب، تجذبهم برواتب تتراوح بين 1200 – 3000 دولار أميركي. مؤكداً أنّ "النقابة في ريف دمشق مسجلٌ فيها 2850 طبيباً. خمسون بالمئة منهم طبّ عام والباقي مختصون، وأطباء التخدير المسجلون بالنقابة 12-13 فقط، مع الافتقاد لاختصاص الأوعية والصدرية". في السياق أكدت مديرة أحد مستشفيات اللاذقية أنّ معظم الأطباء المقيمين يتعلمون اللغة الألمانية ريثما يجدون فرصة للسفر.

الثّورة أعطت تطوراً كبيراً وانفتاحاً لجيل الشباب، لا شك، ولكن عدم قدرة المعارضة على تشكيل جسمٍ حقيقي يجسد الحلم السوري كان سبباً بعدم الإيمان بالملف السياسي

ولنزد من الشعر بيتاً.. عبد الكريم رمضان طالب في كلية الطب البشري بجامعة دمشق، وطالب في كلية الهندسة المعلوماتية في الجامعة الافتراضية السورية، حاصل على الميدالية الفضية على مستوى العالم ضمن الأولمبياد "اختصاص رياضيات". جامعة كامبريدج البريطانية سارعت لاستقطابه بمنحة مموّلة بالكامل. بناء عليه ماذا يقول الوزير، المذكور آنفا، الذي فضّل مهنة الميكانيكي وعامل الصرف على الطبيب؟!.

الثّورة أعطت تطوراً كبيراً وانفتاحاً لجيل الشباب، لا شك، ولكن عدم قدرة المعارضة على تشكيل جسمٍ حقيقي يجسد الحلم السوري كان سبباً بعدم الإيمان بالملف السياسي، في ظلّ السعي المستمر لتأمين رغيف الخبز نظراً للأوضاع الاقتصادية السيئة، فضلاً عن التخوّف من عمليات الملاحقة والاعتقال. واليوم بات جيل "شباب الثورة"، بدوره، يجترّ "ألم الهزيمة" بدلاً من الوقوف على "العبرة التاريخية"، وتقديم رؤية للخروج من "الهزائم النفسية"، والتقوقع بداخلها إلى ما لا نهاية. بينما صاحب المصلحة الأكبر في ترسيخ "عقيدة المهزوم" هو النظام السوري، لأنه يدرك جيداً أنّ أي حراك شبابيّ من شأنه أن يُدخِل الانتكاسة الشعبية السورية في غرفة الإنعاش، سوف تكون محصلته "تفتيت المنظومة الأسدية"، وبالتالي شرعنة قيام ثورة مضادة تطيح به.