بعيداً عن الديمقراطية

2022.03.19 | 05:14 دمشق

2022-03-15t140504z_597600982_rc213t9znhdu_rtrmadp_3_syria-anniversary-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

أرجو منك، أيها الصديق، أن تحتمل وعورة أفكاري وعنادها، ولا بأس أن تفكر بأنني أمشي بعكس التيار لكي أصيب بعضَ الشهرة، فهذا التفكير ليس خاطئاً تماماً، وأنا كثيراً ما كنت أتساءل: أين المشكلة إذا حققتُ من خلال ما أكتب شهرةً ما؟

يحصل كثيراً أن نرى، على السوشيال ميديا، صورة جماعية لأشخاص نعرف واحداً منهم أو أكثر، وتحتها شروحات تفيد بأن هؤلاء الإخوة الموجودين في الصورة قد جرى انتخابُهم ليكونوا أعضاء المجلس المحلي في البلدة (المحررة) الفلانية، أو أعضاء مجلس الجالية السورية في الدولة الشقيقة العَلانية، مع التنويه بأن الانتخاب جرى وسط جو من الديمقراطية.

الحقيقة أن هذا الكلام تنقصه الدقة، وكلمة "ديمقراطية" الواردة فيه تبدو كأنها زلة لسان غير مقصودة، أو أن كاتبها يستخدم المصطلح دون تدقيق.. فأنت ترى في الصورة عشرين أو ثلاثين رجلاً، بأبهى حللهم، وعَلَم الثورة يملأ خلفية الصورة، ولكن، مهما تمعنت فيهم، وتأملتَ و(بحبشتَ)، فلن تجد بينهم امرأة واحدة، ووقتها تنفتح شهيتك لتعديل العبارة الأخيرة لتصبح: الانتخاب جرى وسط جو من الديمقراطية الرجالية.

ذات مرة، كان بين الرجال الظاهرين في إحدى الصور صديق لي عزيز، فتجرأت وسألته، في التعليقات، عما إذا كان أفراد هذه الجالية كلهم (زلم)؛ فرد علي، بلطفه المعهود، موضحاً أن بين الأعضاء المنتخبين امرأة، ولكنها لا تحب (أو ربما لا يوافق زوجها) أن تُنشر صورتُها! وبما أن معلاقي كبير، على حد تعبير أهل بلدتي معرتمصرين، فقد وضعت تعليقاً آخر على المنشور قلت فيه: إذا حذفتَ كلمة "ديمقراطية" من تعليقك على الصورة، يصبح كلامك غاية في الدقة.

في سنة 1957، التقى الشيخ الإصلاحي خالد محمد خالد بقائد انقلاب 23 تموز 1952 البكباشي جمال عبد الناصر، وكان الشيخ خالد شجاعاً إلى درجة أنه قال لناصر: يؤسفني أن أقول لك إن الثورة كانت خطوة إلى الوراء في مجال الحريات وحقوق الإنسان. وبالقياس على ذلك؛ لا بد من القول إن الثورة حققت خطوات واسعة (إلى الوراء) في مجال حقوق المرأة، ومَن يريد أن يختلف معي بهذا الرأي فليذهب إلى المناطق التي تحكمها هيئة تحرير الشام، مثلاً، ويطّلع على هذا الأمر عن كثب.

حينما كنت عضواً في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، قبل كانون الأول 2016، لم تكن مناقشاتنا تخلو من ذكر الديمقراطية، ولكنْ، لم يكن لها وقع خاص على مسمعي، ليقيني أن قائلها لا يقصد الديمقراطية بمعناها الاصطلاحي الدقيق للكلمة.. وقد كنت، حينئذ، أحد أعضاء ما سمي بـ الكتلة الديمقراطية التي شكلها أصدقاء دخلوا الائتلاف خلال التوسعة، 2014، وفي مقدمتهم الراحل الأستاذ ميشيل كيلو.. وللتوضيح، ربما كان البعض من أعضاء تلك الكتلة ديمقراطيين بالفعل، ولكن الجو العام لم يكن كذلك. 

في سنة 1957، التقى الشيخ الإصلاحي خالد محمد خالد بقائد انقلاب 23 تموز 1952 البكباشي جمال عبد الناصر، وكان الشيخ خالد شجاعاً إلى درجة أنه قال لناصر: يؤسفني أن أقول لك إن الثورة كانت خطوة إلى الوراء في مجال الحريات وحقوق الإنسان

كانت انتخابات الائتلاف توصف، هي الأخرى، بأنها ديمقراطية. وهنا يذهب الظن إلى أن الديمقراطية تعني أن يدخل العضو إلى الغرفة السرية، ويكتب أسماء المرشحين الذين يختارهم، ثم تُفرز الأصوات، وتُحصى بشكل علني. هذا ظن خاطئ، أو لنقل: مبسط، فالديمقراطية، في أحد تعريفاتها، تعني (مجموعة الطرق التي تؤدي إلى اشتراك الشعب في الحكم)، وليس الانتخاب إلا واحداً من مجموعة الطرق هذه.

شعوب منطقتنا، على العموم، لا تطبق من الديمقراطية سوى الانتخاب، لا بل إن أعتى نظامين ديكتاتوريين في المنطقة (نظام حافظ ونظام صدام) لم يتوقفا قط عن إجراء الانتخابات، يا سيدي، حتى اختيار أعضاء مجلس إدارة اتحاد الحرفيين في الرقة، والفرقة الحزبية في قرية حربنوش، وما شابه ذلك، يجري بالانتخاب. 

الانتخاب، في حالة الائتلاف، شكلاني، لأن الجميع يعلمون أن الرئيس، ونوابه (العادي، والكردي، والمرأة)، والأمين العام، وبعض أعضاء الهيئة السياسية، يجري تحديد أسمائهم، بالتوافق بين الكتل الرئيسية.. وهكذا تصبح عمليةُ الاقتراع تحصيلاً لحاصل، بل تثبيتاً لما توافق عليه الأعضاء خلال لقاءات ماراثونية طويلة كانت أحياناً تدخل في طريق مسدود، فتضطر الكتل إلى تأجيل الانتخابات إلى أجل مسمى.

لا يجوز، أخلاقياً، في رأيي المتواضع، أن نذيع أسرارَ مؤسسة عملنا فيها بعد مغادرتها، ولكن ما أذكرُه الآن عن انتخابات الائتلاف لم يكن سراً قط، بل يعرفه الجميع، حتى إن الصحف كانت تنشر اسم رئيس الائتلاف الجديد وأعضاء الفريق الرئاسي المرافق له قبل دخولنا نحن الأعضاء إلى غرفة التصويت، وحتى رئيس الحكومة المؤقتة، كان يجري الاتفاق عليه بين الكتل.. وقد كان أمراً طريفاً أننا، في إحدى المرات، فتحنا باب الترشيح لجميع الإخوة السوريين، من أجل اختيار رئيس للحكومة المؤقتة منهم، وتقدم بعض المرشحين بالفعل، وألقوا كلمات عرضوا فيها بياناتهم الانتخابية، بينما نحن متوافقون على الدكتور أحمد طعمة!   

الحديث عما يجري في الائتلاف لا يخرج عن الفكرة الأساسية لهذه المقالة، وهي أن شرائح واسعة من الشعب السوري الثائر لا تريد الديمقراطية، لست أقصد ثوار 2011، فقد كان كثير منهم يحلمون بمجتمع ديمقراطي، بل أقصد ما آلت إليه الأمور في السنوات اللاحقة.

أذكر، أيضاً، أن حواراً دار حول الدستور، وتحدث أحدُنا عن ضرورة إعلان مبادئ دستورية، فاستبسل قسم كبير من الزملاء في الدفاع عن دستور سنة 1950 الذي وُضع في عهد الانقلابي سامي الحناوي.. وليس بعيداً عن هذا النقاشُ الواسع الذي شهدته السوشيال ميديا حول تسمية دولتنا "الجمهورية السورية".. فيومها قامت القيامة على أصحاب هذا الرأي، ما يعني أن العرب السوريين المعارضين لحكم البعث، متفقون مع البعث، وحتى مع عائلة الأسد، حول تسمية بلادهم "الجمهورية العربية السورية".

يرفض ثوارنا الأكارم، كذلك، فكرة إقامة نظام فيدرالي، على غرار ألمانيا، مثلاً، ولا يوافقون على إلغاء حكم الإعدام، مع العلم، بل اليقين، أن حكم الإعدام لا يُطبق على الحكام، وقد رأينا بأعيننا كيف مات حافظ الأسد على فراشه، وكذلك بهجت سليمان، وفايز النوري، وجميل الأسد.. وعلى الرغم من الخلاف العائلي الحاد، والمزمن، فتح بشار الأسد باب سوريا لعمه المجرم رفعت، لكي يموت، إذا مات، على فراشه بأمان، وأما نحن، أبناء الشعب، فما زلنا نقتل ونعدم ونهجر بمئات الألوف.    

الديمقراطية، برأيي، ليست أحد الحلول التي تساعد الشعب السوري على الخروج من محنته الكبرى هذه، وإنما هي: الحل الوحيد.