نحن عملاء ولكننا محترمون

2022.07.15 | 07:26 دمشق

١
+A
حجم الخط
-A

المواطن، في القانون السوري، بريء حتى يُدان، ولكنه، عند نظام الأسد الفاشي، مدان حتى يُبَرَّأ، ومعتقَل تحت الطلب، والداخل إلى معتقلاته مفقود، والخارج منها مولود. أكد لنا أكثر من "مولود" عائد من تدمر أن أول شيء يقرؤه المعتقل عندما يصل الباب الخارجي للسجن عبارة: يا داخل هذا المكان، انسَ الزمان! وهذه المقولة صادقة – مع الأسف – لأنه لم يكن أحد يعلم على وجه الدقة، ولا حتى التقريب، متى يمكن أن يخرج السجين من هذا المكان.. إذا خرج.  

اعتقال المواطن السوري يستند، في كثير من الأحيان، إلى تهمتين: واحدة مخفية والثانية معلنة. التهمة المخفية تكون، في العادة، حقيقية، وخطيرة، وأما التهمة المعلنة، البديلة، فتكون غاية في السخف والابتذال. مثلاً: نصحو، نحن المواطنين الغافلين، على خبر اعتقال زيد من الناس على نحو مباغت، أي دون أن يكون قد ارتكب أي نوع من المخالفات أو الجرائم، فندرك أن اعتقاله سياسي، ونتساءل: أيش الحكاية؟ فتأتينا إجابات مبهمة، تبدأ بفعل الأمر الشامي المُحَيِّر (أبْصَرْ):

أبْصَرْ شو عامل. الله أعلم..

يستحيل أن يوجد بين المواطنين الذين يسمعون الخبر واحد متهور إلى درجة أن يقول إن زيداً هذا اعتقل ظلماً وعدواناً. المواطن الخائف معه حق، فهو أعزل، والخصم جيشٌ عرمرم من أشباه البغال المدججين بالسلاح، والمال، وأدوات التعذيب.

الأوساط المقربة من المعتقل تُلمح إلى سبب الاعتقال الحقيقي، وهو أنه، على سبيل المثال، حضر اجتماعاً في مكان عمله، وكان عنيداً فلم يسمح بتمرير صفقة يستفيد منها مسؤولون كبار، وخلال الاجتماع استفزه أحد الخصوم، وهدده بحافظ الأسد (أو وريثه فيما بعد)، فانفلتت منه كلمة لا ندري ما هي بدقة، ولكنها قريبة من (طز).

بعد أيام قليلة، تتسرب من داخل المعتقل تفنيدات عجيبة، كالقول إن زيداً هذا، الله لا يعطيه عافية، يتخابر مع أميركا! ومن المؤسف، والمحبط، أن كثيرين يصدقون هذه السخافة. ولكن، ألا يحق لنا، الآن، بعد كل تلك السنين، أن نتساءل:

كيف يعني أن يتخابر مواطن سوري مع أميركا؟ هل أميركا منزلٌ في الطابق الثالث من بناية ما، يتألف من ثلاث غرف مع منتفعاتها، وعندها جهاز هاتف ذو قرص يتلقى مكالمات المتخابرين؟ ألو، ألو، ألو، (رنين) أوخ، الحمد لله، علق الخط.. ألو أميركا كيفك؟ كيفهم الشباب؟ البنتاغون، والكونغرس، وبرج التجارة العالمي، ووول ستريت، ولاس فيغاس؟ وكيفهن الصبايا؟ قصدي الإمبريالية والصهيونية والرجعية والمؤامرة الكونية؟ الكل بخير؟ ممتاز، سلمي لي عليهم. الغرض من المكالمة؟ يا ستي، يا أميركا، أريد أن أبلغك بأن القصة واحد اثنان ثلاث؛ ترى النظام السوري يعد نفسه للهجوم على إسرائيل وتحرير الجولان، فخذي حذرك، وخلي إخوتنا الصهاينة ينتبهوا، ترى الحديدة حامية!

وما إن يغلق المتخابر الخط، حتى تأتي سيارات الزيل، والتاترا، والبي تي إرات، وينزل منها العسكر، طب طب طب، تعال معنا يا واطي. تتخابر مع أميركا يا خاسر، يا عميل، يا كر؟

(الثورة تَجُبُّ ما قبلها). هكذا قال لنا السادة الخبراءُ الثوريون. ولكن؛ رويدك، أين الجَبُّ هنا؟ أليس غريباً أن تستخدم التنظيمات الجهادية المسلحة التي سطت على الثورة تهمةَ التخابر مع أميركا ذاتها؟ يا سيدي نفس طريقة نظام الأسد في ضرب المعارضين، (لا قلم زاد ولا قلم نقص).

ألو أميركا، أنا المتخابر معك فلان، سأعطيك الآن موقع تنظيم الدولة، أو موقع النصرة، أو موقع حراس الدين. اقتلوا أميرهم، لا تنسوا أن تقصفوهم بشكل جيد هه.

ويُعتقل هذا المتخابر المسكين قبل أن تتمكن أميركا من قصف الموقع المذكور. وهنا يكون الوضع أكثر إدهاشاً، فالمتهم بالتخابر المسكين، في الواقع، لا يمتلك سوى تلفون نوكيا قديم، لا يخدمه بأكثر من الاتصال بأم أولاده، والطلب منها أن تجهز إبريق الشاي، لأنه سيأتي بعد قليل ومعه ضيوف.

قضى سوريون كثيرون سنوات طويلة في سجن تدمر استناداً إلى تشكيلة من تلك التهم ذات الطبيعة الإنشائية، من قبيل: محاربة الدستور، إثارة البلبلة في المجتمع، التفكير بتشكيل تنظيم مسلح لقلب نظام الحكم في الجمهورية العربية السورية، وهن نفسية الأمة، تحقير رئيس الدولة.. إلخ.

كان عندنا دكانجي فقير من قرية قريبة من بلدتي معرة مصرين، أعرفه شخصياً، نام في سجن حلب المركزي ما يزيد عن خمس سنوات، استناداً إلى قرار من محكمة الأمن الاقتصادي، بتهمة: محاربة النظام الاشتراكي! وقد دفعني الفضول، بعد خروجه من السجن، فسألته عن تهمته (الحقيقية)، فقال لي:

بعض زبائني المفلسين كانوا يأتون إلي ومعهم دفاتر التموين (البونات)، يريدون بيعها، وأنا كنت أشتريها، مثلي مثل غيري من أصحاب الدكاكين في سوريا، ووالله إنني لم أكن أعرف أن هذا الأمر ممنوع أصلاً.

سألته: يعني ما كنت عم تحارب النظام الاشتراكي؟

فقال لي مندهشاً: آ؟

عندما كان صدام حسين رئيساً للعراق؛ سئل عن معتقلي الرأي الذين يرزحون في المعتقلات، فأجاب: ماكو عندنا معتقلو رأي، أكو شوية عملاء يلقون جزاءهم. وكان حافظ الأسد أكثر مكراً من صدام، فحينما وجه إليه السؤال نفسه، قال إن سوريا لا يوجد فيها معتقلو رأي، لأن فيها محاكم مدنية تطبق القوانين والأنظمة على مخالفيها.

أخيراً: إن مشكلتنا، في هذه البلاد الغلبانة، أننا نستخدم المصطلحات المعروفة عالمياً بمعنى مغاير لمعناها الحقيقي. فلنفرض جدلاً أن كلام الأنظمة الفاشية عن أميركا بأنها معادية للشعوب، وللحكام الممانعين، صحيح؛ ما الذي يمنع المواطن السوري، مثلاً، أن يكون له اتصالات مع أشخاص، أو جامعات، أو مؤسسات اقتصادية أميركية؟ ولماذا نسمي المواطنين المعارضين لنظام الحكم في بلادهم عملاء؟ ألا نعلم أن المتعاملين مع البنوك والشركات الكبرى في العالم اسمهم: العملاء؟

نحن عملاء، صحيح، ولكننا محترمون.