ثقافة أهالي المعتقلين

2022.05.20 | 07:17 دمشق

معتقلون سوريون
+A
حجم الخط
-A

مَن يريد أن يعرف ويتعلم و(يتثقف) بأساليب الإجرام التي اتبعها نظام الأسد مع معتقلي الرأي، خلال نصف قرن من الزمان، يمكنه أن يقرأ من المقالات والكتب والروايات ما لا يحسب الحاسب، وفي رأيي الشخصي؛ أن لكتاب محمد برو "ناج من المقصلة" أهمية استثنائية في هذا المجال، لأن كل ما دونه فيه جاء عن تجربة شخصية، وليس قيلاً عن قال.

وأما أهالي المعتقلين؛ هذا الجمهور الواسع، الحزين، فقد أصبح لهم - في سوريا المنكوبةِ بحكم العصابات - ثقافةٌ خاصة، وقصص، وحكايات، وطرائف.. سأدون، في هذه المساحة، بعضاً منها.

الحكاية الأولى (آخر الرقصات):

في أواسط التسعينيات، كتب الأديب الراحل تاج الدين الموسى قصة تراجيدية مؤثرة جداً بعنوان "آخر الرقصات"، ضمها إلى مجموعته القصصية "الخائب"، التي صدرت سنة 2002. موضوع القصة شاب معتقل، لا نعرف شيئاً عن اتجاهه السياسي، ولا عن سبب اعتقاله، ولا أي تفصيل من تفاصيل السنوات الكثيرة التي أمضاها في المعتقل، وأما بطلة القصة الحقيقية فهي والدة المعتقل، جَدّة راوي القصة.

انقلبت حياة هذه الجدة رأساً على عقب بعد اعتقال ابنها "فاخر"، وأصبحت تحبه أكثر من أبنائها وأحفادها أجمعين. حولته إلى مضرب مثل: إذا أحدهم كذب، كانت تقول له: فاخر كان لا يكذب. وإذا تكبر عن طعام تقول له: فاخر كان يأكل من الموجود، وإذا تغالظ آخر، تحكي له عن دماثة فاخر، وحسن تعامله مع محيطه.. باختصار: فاخر رضي، حباب، مسالم، طيب، كريم، شجاع، مرح.. إلخ.

نامت الجدة على السيرة سنين طويلة.. فقد عرفت، وأمثالُها، مع توالي الأيام والليالي، أن حافظ الأسد كان يأخذ الشباب وينقعهم في سجن تدمر، ولا يوجد كائن آخر غيره يعرف متى سيطلق سراحهم.. تأتيها أخبار سارة عن اقتراب إطلاق سراح فاخر، فلا تهتم كثيراً بعدما أصيبت، وأمثالُها، بخيبات كثيرة من هذا النوع، وتصلها أحياناً أخبار مزعجة تنص على أن باب السجن سيغلق على السجناء مدى الحياة، أو أن فاخر قُتل تحت التعذيب، فتبتسم، بل وتضحك مستهزئة بهذا الخبر، فهي تحتكم عادة إلى قلبها، وقلبها يقول لها إنه لم يمت... إلى أن حصل ما حصل.

في سنة 1995 (أو ربما بعدها بقليل)، حينما جاءها خبر، عرفت، من خلال (قلبها)، أنه هذه المرة صحيح.. فدب فيها نشاط استثنائي خارق، استنفرت الأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات، ونفّذوا كل ما أمرتهم به، من تنظيف، وترتيب، ورشرشة مياه في أرض الديار، وطلبت من ابنة عم فاخر المخطوبة له قبل اعتقاله، أن تجهز نفسها لاستقبال ابن عمها، خطيبها، والكل كانوا يأتون غير مصدقين، وهي تؤكد لهم أنه قادم.. وبالفعل، وصل فاخر القرية وذهب إخوته لإحضاره إلى الدار، ولعلعت الزغاريد، والجدة أحضرت الدربكة (الطبلة) وصارت تضرب عليها بإيقاع راقص، ثم أعطت الدربكة لامرأة أخرى، ورقصت هي، رقصت بطريقة لا تتناسب أبداً مع تقدمها في السن، والأمراض الكثيرة اللاطئة في جسدها النحيل.. وهكذا دواليك حتى وصل فاخر.. ووصلت معه الخيبة. فهو غير فاخر الذي نامت الأسرة كلها على صورته المشرقة، تقدمت خطيبته حبيبته لتسلم عليه، فنظر فيها وكأنه لا يعرفها.. هذا فاخر آخر، إنسان مسحوق، عابس، شارد، لا رمق فيه. وخلال رقص الجدة، ومن خلال بضع نظرات في المحيط، تسقط على الأرض، جثة هامدة.

الحكاية الثانية: (لا يعرف داره):

روى صديق لي اسمه "يزن خضر"، حكاية واقعية، جرت في رمضان الذي صادف سنة 2001. قال إنه كان واقفاً، بعد الإفطار، بالقرب من مدينة أريحا على طرف الأوتوستراد الذاهب إلى اللاذقية، وكان يقف في الطرف الذاهب إلى حلب رجل مهلهل الهيئة، ينتعل في قدميه شحاطة بلاستيكية عتيقة. بعد قليل عبر الرجل باتجاه يزن، وسأله عن طريق جسر الشغور. قال له: الطريق من هنا، أنت كنت واقفاً بعكس الاتجاه. وبعد قليل مر باص ركاب، فصعدا إليه معاً. وفي الطريق رجاه أن ينبهه عندما يصل الباص إلى جسر الشغور.

فهم يزن من هذا السؤال أن الرجل لم يأت إلى جسر الشغور قبل هذه المرة. لذا سأله: أنت من أين؟

قال: أنا من جسر الشغور!

دُهش من هذا الجواب. ومن خلال الأسئلة عرف أنه كان سجيناً في تدمر منذ سنوات طويلة. المهم؛ حينما وصل الباص الجسر، نزل معه، وسلم على شبان واقفين عند الكراج، ورجاهم أن يوصلوه إلى بيته. لأنه كان قد نسي أين بيته أيضاً.

الحكاية الثالثة (عن خروج معتقلين في الثمانينيات):

تحولت مدينة معرة مصرين الصغيرة (وغيرها بالطبع)، في أواسط التسعينيات، إلى مسرح لا يمثل فيه أهالي المعتقلين أدواراً مكتوبة لهم، وإنما يؤدون تلك الأدوار بقلوبهم وأعصابهم، وأنوار عيونهم.

لن أسهب في الحديث عن تلك الفرق الصغيرة التي تشكلت اعتباطياً من أهالي المعتقلين، بمعدل اثنين أو ثلاثة لكل معتقل، وصاروا يتصيدون أخبار شبان خرجوا من السجن في حلب، أو في إدلب، أو في عشرات البلدات والقرى الصغيرة، ويحصلون على عناوين بيوتهم بطرق عجيبة، ثم يذهبون لزيارتهم، ويجلسون بين المهنئين، ويتحينون الفرصة المناسبة للاختلاء بالسجين الطليق، وسؤاله إن كان يعرف سجينَهم فلاناً شخصياً، أو لديه أية معلومة تبل القلب عنه.

من خلال هذا الجو النفسي المتوتر المشحون بالخوف والحذر والصدمات القاتلة الذي استمر ثلاث سنوات، أو ربما أكثر، على وتيرة واحدة، سأروي لكم هذه الحكاية:

كانت إدارة سجن تدمر، تقول للمعتقل الذي أخلي سبيله جملة مرعبة، هي:

- إذا بتبوح بأي سر من أسرار السجن، منرجعك لهون.

هذه العبارة كانت كافية لأن تجعل هذا الإنسان شبه أخرس، وعندما يوجه إليه، في بلده، بعد إطلاق سراحه، أيُّ سؤال، تراه يتلفت خائفاً كمن يتوقع إطلاق النار عليه من جهة لا يعرفها. ولكن، بعد فترة من الزمن، يثق الرجلُ بشخص من أقاربه، ويهمس له ببعض الأسرار الرهيبة، منوهاً بضرورة الحفاظ على السر.

العم أبو محمود، الناجي من سجن تدمر في أواخر سنة 1994، أسر لي بأسماء ثلاثة سجناء من بلدتنا، رآهم رأي العين وهم يُشنقون في إحدى ساحات سجن تدمر.

ذات يوم، في سنة 1995، وبينما كنا، أنا وأبو محمود، جالسين في أرض داره نشرب كأساً من الشاي، إذ دخل علينا ابنُ شقيقه، وأعلمنا بأن فلاناً (الذي أعدم في تدمر) طلع، وهو الآن في طريقه إلى معرة مصرين.

سأله أبو محمود بهدوء وثبات: متأكد؟

قال الشاب بحماس: نعم، قبل قليل قال لي أبو نادر إنه..

قاطعه أبو محمود: نحن أشو بيهمنا اللي قاله أبو نادر؟ أنت؛ شفته بعينك؟

قال الشاب: لا، ولكن أهله راحوا يلاقوه في سراقب، و..

قال أبو محمود: طيب. متل ما بدك.

وخرج الشاب، بينما التفت إلي أبو محمود وقال لي: عجبك هالحكي؟ قال طلع!