بعد الربيع العربي وتكشف مقولات إنسانية كبرى إلام وصلنا؟

2023.07.04 | 07:18 دمشق

   بعد الربيع العربي وتكشف مقولات إنسانية كبرى إلام وصلنا؟
+A
حجم الخط
-A

لعل النتاج الفكري والثقافي العربي في القرن العشرين الذي شكل استجابة لأسئلة ملحة؛ حول إمكان التقاء الشرط الحداثي مع الشرط الديني أو الاجتماعي العربي في ساحة تشكل الدولة الحديثة، اتخذ دورا مركزيا في الدراسات العربية لدى محمد عابد الجابري وعلي حرب والعروي ومحمد أركون وكثيرين؛ غير أن قراءة تلك الجهود توصلنا لنتيجة مفادها أن المحاولات ركزت على عطب الذات أو عوامل عطالتها وضرورة انعتاقها إلى الحداثة والتحضر، كما اتخذت تلك الدراسات بعدا تأسيسيا في الرؤية العربية للذات مقارنة بآخر متحضر ومتقدم، وركزت أغلبها على الدين وطرحه من منظور تحقيبي - ومعياري لدى بعضها-، ولاشك في أهمية تلك الدراسات وأي دراسة جديدة؛ شرط تجردها من نزعة الحداثوية وأشكال جلد الذات مع اشتراط خروجها عن الثقافوية والمقاربات الأيديولوجية، ولا سيما أن الحداثة نفسها تحولت إلى أيديولوجيا في مرحلة صعود أيديولوجيات قومية وأممية ويسارية تقليدية وليبرالية؛ تلك التي سرعان ما استقبلها شرقنا الخارج من وحل الاستعمار كقوالب جاهزة؛ ولعبت دورا مشوِّها للأصول القديمة من التراث ومشوِّها للأصول الحديثة من الحداثة نفسها؛ مع حزمة القيم الحديثة التي نشأت في ظروف تختلف عن مجتمعات الشرق وكان الأجدى بمفكرينا اللاحقين البناء على ما سبق – نقضه أو مناقشته- وتبيئة تلك القيم والثقافة الجديدة بما يتلاءم ومجتمعات الشرق، مع ضرورة صنع الحداثة بأي مجتمع انطلاقا من ظروفه وسياقاته التاريخية.

غير أن أغلب المقاربات الجديدة انشغلت بالذاتي، وتجاوزت الموضوعي في معظم رؤاها؛ ورغم أن الجميع بات يعرف قوة الغرب وغطرسته وسطوته في التكريس؛ لكنها أصبحت من المسلمات لدى من يسلم بها من غير المفتونين أو المتبعين لها بعمى أيديولوجي، مع ذلك يبدو أن هناك تجاوزا لتلك المعرفة ومحاولة للبحث عن إمكانية العمل بما يتناسب مع هكذا ظرف ورؤية مركزية أوروبية لا تتزحزح تحت مسميات مصالح دولية، في حين لم نجد لنا دولا لنبنيها بسبب خضوعها لذهنية استعمارية، ولكي نفض الأسئلة المتعلقة بالموقف من الحداثة لا بد من طرح شروط وسياقات وجودها الآتية:

إذا كانت الحضارة الحديثة قد أنجزت ما أنجزته في الغرب وانعكست أولى حركاتها على الشرق باحتلاله واستغلال كل طاقاته، واستنزاف خيراته لتكون مواد أولية لصناعته، مع زرع بذور عطالة التفرق والتناشز، وإبان جلائها عن بلداننا تركت أزلامها ــــــــــ العسكر ليحكموه وفقا لما تريد ولما يخدمها، -يثبت ذلك ببساطة بالأنظمة العسكرية غالبا التي تحكم كل دول الشرق التي خضعت للاستعمار-، ومنعت أي تطور صناعي لتبقى تلك البلدان سوقا لمنتجاتها وعلى المبدعين من أبنائها الهجرة للغرب ليكونوا جزءا من آليات تطوره وإنتاجه فما العمل؟

وفدت بعض قيم الحداثة وأفكارها وتسربت للمجتمع ومثقفيه لكنها وفدت مع حمولة الكولونيالية في ذاكرة الشعوب، وممزوجة برؤية المركزية الغربية واعتبارها معيارا يقاس عليه بحيث اختلط الحداثي بالأثر الاستعماري المستمر

إذا كانت الدول الاستعمارية قد جلبت الحداثة تحت نيران المدافع، حتى إنها أخضعت الحداثة نفسها لعملية احتلال، وصار على تلك الشعوب أن تقاوم الاستعمار وتحت ظروف عدم توازن القوى؛ من الطبيعي أن تلجأ تلك الشعوب لرأسمالها الرمزي وهو الدين بكل أنماطه وتنويعاته كمصدر للتمسك بهوية تتعرض للدحض والهتك، وكمنبع يؤسس للتماسك بوجه عدو غاشم، بالتساوق مع ذلك وفدت بعض قيم الحداثة وأفكارها وتسربت للمجتمع ومثقفيه لكنها وفدت مع حمولة الكولونيالية في ذاكرة الشعوب، وممزوجة برؤية المركزية الغربية واعتبارها معيارا يقاس عليه بحيث اختلط الحداثي بالأثر الاستعماري المستمر، مع رؤية فوقية المثقف وضحالة المجتمع وضرورة الوصاية عليه حتى أصبحت القطيعية عبارة يتمثلها أغلب المثقفين في وصف المجتمع، ووصل بعض مثقفي السلطة الكثر إلى أن الشعوب ليست مؤهلة للحرية والديمقراطية.  

قبالة ذلك توجد في أوروبا والأميركيتين دول فقيرة ومتخلفة وبلا أثر حضاري يذكر، تشكل الحديقة الخلفية لأوروبا المتحضرة والسؤال لماذا غاب تخلف تلك الدول التي غاب فيها العامل الديني من دراسات مثقفينا ومفكرينا؟ مثلما أن دولا كماليزيا ودينها الرسمي الإسلام رغم تشكيل المسلمين نسبة 61% لا أكثر، أو أندونيسيا رغم اختلاف البيئات الاجتماعية والثقافات عموما عن العربية، فهل كان حملة الحداثة المغتصبة في شرقنا سوى مسوقين فاشلين؟ 

إذا انتفضت الشعوب بثورات حقيقية وتآمرت عليها قوى الغرب، وإن الدول تسير وفقا لمصالحها فهل يبرر ذلك بقاءها كمسلمات ذهنية لا يمكن تجاوزها فنلتزم بالتفكير وفقا لما ترسمه لنا؟

إذا كانت بعض المرجعيات الدينية والاجتماعية والقبلية قد ارتبطت بقوى استعمارية وبجمعيات ثقافية ومؤسسات اقتصادية وماسونية منذ قرن، وإذا كانت مجلة شعر قد تم اكتشاف تمويلها من الاستخبارات الأميركية حسبما ورد في صحيفة عربية معتبرة تصدر من بريطانيا؟ لا شك في أن ذلك سيفتح أسئلة حول الكثير من أحزابنا وجمعياتنا بما فيها الدينية مرورا بمنظمات المجتمع المدني، في سائر أنحاء البقعة العربية.

لا نجبُّ هنا أو نستنكر أي محاولة لنقد الذات، وأي محاولة للارتقاء بأسس التفكير، والنقد والبناء، ومحاولة تجاوز العقل الساكن، لكن هل استطعنا فعلا أن نتجرد من الأثر الغربي في سلوكنا وتحالفاتنا وعملنا السياسي وأصول الحكم المعتمدة في بلداننا؟ هل نحن مستقلون فعلا أم أنّا نسير باتجاه التقليد بكل ما يضمر من مخاطر القفز على أسس الواقع وممكناته، وعمليات التحول الديمقراطي المتدرجة والمثاقفة المتوازنة مع العالم المحيط؟ وهل يمكننا معالجة مشكلات الثقافة والفكر والدين من دون إطلاق أحكام معيارية وثنائيات العقل والنقل وسائر مصطلحات النخب التي وقعت في مغبة تصنيمها لذواتها وأفكارها؟ من دون أدنى انتباه لدورها الرسالي الواجب وهو تنقية الحداثة نفسها من خبث لحق بها، وتركها في ساحة المجتمع بعد تبيئتها عبر إخضاعها للتفسير وتجزئتها لمراحل تحوير وقياس وموازنة وتحديث نابع من بنية الذهنيات الاجتماعية وجملة الظروف الخاصة القارة في الشرق.

كيف لنا أن نقرأ كل هذا المنتج الفكري الغربي بمعزل عن المدراس والرؤى الغربية التي تحشر أنفها في كل شيء وتتحكم بكل أمزجتنا ورغباتنا عبر مراكز بحثية وإمبراطوريات إعلام مرافقة لحكومات العسكر في سائر بلدان التاريخ الكولونيالي؟

لابد من محاولات حقيقية لمفكرين ومثقفين في نقد الثقافة والفكر والمجتمع والعادات والتقاليد والتخلف وعوامل العطالة المشهودة، لكن قبالة ذلك برؤى مستقلة ورقابة ذاتية تتساءل حول ضمان استقلالها واستقلال مناهجها وتجرد طارحيها من عقد الدونية والتقليد للغرب أو محاولات القفز فوق الواقع المعاش.

القوى الكولونيالية والنظام الدولي الجديد غيرت فقط في آليات الاستغلال، واستبدلت نظام الجباية عبر الإقطاع سابقا من دولنا ومشيخات القبائل، وقادة سلطات الأمر الواقع، إلى تنصيب إقطاعي واحد أو عسكري واحد لكل دولة/قبيلة مستبد

إن وجود الأنظمة الوظيفية التي لعبت دور زنجي المنزل ضد زنجي الحقل، وشغلت الشعوب بأنظمتها الفاسدة والدكتاتورية، لمعت أوروبا ذات شعارات الحرية وتركتها تخضع لتأثير عسف الأنظمة كبالونات حرارية تذر الرماد في العيون مع تحكم برقاب العباد وأذهانهم، ونسف الطبقة الوسطى حتى برجوازياتنا ألم تكن ظلا لبرجوازيات الغرب وبعيدة أن أي قدر من الفاعلية.

القوى الكولونيالية والنظام الدولي الجديد غيرت فقط في آليات الاستغلال، واستبدلت نظام الجباية عبر الإقطاع سابقا من دولنا ومشيخات القبائل، وقادة سلطات الأمر الواقع، إلى تنصيب إقطاعي واحد أو عسكري واحد لكل دولة/قبيلة مستبد بيده قوة العسكر والمال ومقدرات البلاد وأنفاس أهليها، وعليه أن يقود الدولة وفقا لنهج لا تقام فيه حضارة ولا ثقافة ولا حرية، لنصل في النهاية لاستنتاج أنا أمام ذات معطوبة تولد كل هذا السخام، من تنابذ واقتتال واختلاف أيديولوجي.

إن الاستعمار ليس مرحلة ولت وقضت، بل الاستعمار ذهنية مستمرة حتى الآن، تلفعت بلبوس متحضر وبأدوات حديثة تستهدف الهوية وتسعى لتحويل عوامل التنوع الاجتماعي والحضاري والديني إلى عوامل فرقة وتناحر تحت مسميات ديمقراطيات محاصصة كما أنتجت في آخر نسخها في العراق. وعليه لابد من التفريق بين الديمقراطية ومحاصصاتها الغربية، والعمل على تنشئة ثقافة وطنية تتشرب قيم الخير والبناء والتشارك وصولا إلى مواجهة التساؤل ما العمل؟ وهل نبدأ معتمدين عزلا عما يتسرب بين السطور ويشكل أفكارنا وأمزجتنا؟