انقلابيو النيجر والانضمام بمرح إلى حروب الآخرين

2023.08.10 | 05:47 دمشق

انقلابيو النيجر والانضمام بمرح إلى حروب الآخرين
+A
حجم الخط
-A

رغم أن التجربة العربية مع حكم العسكر في عدد غير قليل من البلدان باتت مثالاً للكارثة النموذجية، في سياق الحديث عن أنظمة الحكم والدولة المشوهة، وإبادة المجتمع المدني، وإحلال أشد تعابير المجتمع الأهلية تخلفاً ورداءة مكانه، إلا أن ثمة من لا يتعلم، أو لا يريد، وربما لا يعرف القراءة والكتابة، فيعود إلى محاكاة التجربة ذاتها، وكأنه قد ولد البارحة، لجهة عدم معرفة ما جرى في الماضي، وبالتالي الوقوع في حفره العميقة، وربما الهاوية!

نتحدث هنا عن الانقلاب العسكري الذي قاده عدد من الضباط في دولة النيجر على الرئيس محمد بازوم المنتخب ديموقراطياً، في خطوة تتكرر في منطقة الساحل للمرة الثالثة خلال بضع سنوات. فقد سبقها انقلاب العسكر في بلدين هما مالي وبوركينا فاسو.

إلا أنه وعلى عكس التجربتين السابقتين اللتين مرتا في خضم أحداث كبرى، ولم تتعامل معهما القوى الإقليمية والدولية، تستدعي القصة في النيجر منذ حدوثها الاهتمام على مستوى الإقليم حيث تتدخل منظمة الإيكواس (منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا) وتبادر إلى تهديد المنقلبين بالتدخل العسكري، بعد تهديدات أولى كقيام نيجيريا بقطع الكهرباء عن جارتها الشمالية، ويأتي الرد من رفاق السلاح وكره الديموقراطية في مالي وبوركينا فاسو عبر التهديد المضاد بدخولهما المعركة إلى جانب رفاقهما في نيامي (عاصمة النيجر)!

يبدو ما يجري وكأنه فيلم أميركي مثالي عن تشابك العلاقات المصلحية للدول الكبرى مع دول المستعمرات السابقة، وقدرتها على تأجير مرتزقة لخدمة مصالحها حتى وإن قاموا في سبيلها بالمجازر والإبادة

ورغم كثافة البؤر المشتعلة أو القابلة للاشتعال حول العالم، تحوز هذه الأحداث مساحة من الاهتمام الدولي وعلى وجه الخصوص من قبل فرنسا أي الدولة المستعمرة سابقاً للمنطقة، وأيضاً الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتكاثف الاتصالات والمشاورات حتى تاريخ كتابة هذه السطور لتتحدد الحلول المتاحة بين اثنين: الحل السلمي أي تراجع الانقلابيين وعودة الجند إلى معسكراتهم، والحل العسكري والدخول في معركة ميدانية واسعة لن تقف عند حدود النيجر بل ستمتد إلى دول العسكر المنقلبين الآخرين، وليتم عبر خلق هذا الرادع حل معضلة الانقلابات المتكررة في المنطقة المصنفة في بيانات الأمم المتحدة على أنها واحدة من أكثر بقاع الأرض تخلفاً وبعداً عن التنمية.

يبدو ما يجري وكأنه فيلم أميركي مثالي عن تشابك العلاقات المصلحية للدول الكبرى مع دول المستعمرات السابقة، وقدرتها على تأجير مرتزقة لخدمة مصالحها حتى وإن قاموا في سبيلها بالمجازر والإبادة، وفي الطبقة غير الظاهرة لهذه الأحداث، ينبغي ألا تفوتنا معطيات مهمة، أولها الثروات التي تتحكم بها حكومات المستعمرات، وهي هنا اليورانيوم المستخرج من مناجم النيجر، والذي يزود مفاعلات فرنسا وأوروبا بالمواد الخام الكفيلة بديمومية حصولها على الطاقة الكهربائية التي تنتجها المفاعلات النووية، في ظل الأزمة التي تسبب بها العدوان العسكري الروسي على أوكرانيا، فمقابل الاستغناء عن الغاز الروسي ضمن سياسة العقوبات الاقتصادية على نظام بوتين، بات للخامات المشعة المستخرجة هنا أهمية كبرى، يجب عدم التفريط بها، وعدم ترك الآخرين يعبثون بالمصلحة الاستراتيجية للدول العظمى، بالتالي فإن الدور غير المخفي للدول الأوروبية وعلى رأسها باريس لا بد أن يلعب دوراً في تحديد المصير الذي ستنتهي إليه القصة!

أما المعطى الثاني فيرتبط بأزمات تجري في دول بعيدة لكنها امتدت مع مرور الوقت إلى غرب وسط إفريقيا، والمقصود هنا سياسة محاربة إرهاب داعش ومثيلاتها كتنظيم بوكو حرام في هذه المنطقة مختلطة الأديان والمعتقدات، حيث شكلت العمليات الإجرامية التي ارتكبها أفرادها دافعاً للتدخلات العسكرية كزيادة العمليات المشتركة بين الوحدات الخاصة الفرنسية وجيوش المنطقة (سرفال وبرخان) والتي أنهاها انقلابيو مالي بعد تحالفهم المعلن مع قوات منظمة فاغنر الروسية، الأمر الذي فتح الطريق أمام النفوذ الروسي المستجد في البلدان المضطربة، بسبب تمدد العسكر إلى قصورها الرئاسية!

تختلف نماذج الانقلابات الراهنة عن بعضها في كثير من التفاصيل المحلية، لكنها تتشارك مع بعضها في مسألة مهمة ألا وهي غياب التجربة الحزبية وقلة الثقافة السياسية لدى الفاعلين الأساسيين فيها، ففي ظل حال انحسار الوعي والثقافة على مستوى العالم كله، لأسباب عديدة ليس هنا مجال التوسع في شرحها، يظهر لدينا أنموذج القائد العسكري الذي تتحكم ببوصلته نزعاته المصلحية الشخصية، وكذلك العناوين الصارخة والشعارات الكبيرة، حيث تتطابق لديه الرغبة في التمتع بالثروات، والاستفادة من المكانة التي يفرضها السلاح على فئات المجتمع، مع شعارات التحرر من سيطرة العلاقات الاقتصادية التقليدية مع هذا الطرف أو ذاك.

وعبر هذه الخلطة، التي لا تنتج جديداً، على مستوى بنيت الحكومات القائمة في الدول النامية، لا بل تكرر التجارب السابقة، ويصبح معها المجتمع برمته أشبه بالفأر الذي يجري في الحلقة الدائرية إلى ما لا نهاية.

يستطيع هؤلاء تحت دوي الشعارات الشعبوية الصارخة أن يملؤوا شوارع وساحت بلادهم بالجماهير التي تهتف بالسيادة وكراهية الغرب، ولكنها وبهزال يرقى للكوميديا الرخيصة ترفع الأعلام الروسية التي تؤكد سعي المافيا البوتينية إلى فتح الجبهات في أي مكان لمناكفة الأوروبيين والأميركيين

وبينما كان جيل الانقلابيين العرب الذين صنعوا كوارث المنطقة مثقفين بوعي سياسي يؤمن بالتغيير عبر العنف الثوري في سياق الصراع الطبقي، لا يشعر المتابع بوجود مثل هذه النماذج في سياق الأحداث التي تجري في عموم القارة الإفريقية، فغالبية انقلابييها لا يقدمون مشاريع تنموية لصالح بلدانهم كما تخبرنا التجربة الناصرية، بل يطرحون استبدلاً سريعاً بين مستعمر سابق يستولي على ثروات بلادهم ومستعمر جديد يلبس القفازات البيضاء ويدفع أكثر!

يستطيع هؤلاء تحت دوي الشعارات الشعبوية الصارخة أن يملؤوا شوارع وساحت بلادهم بالجماهير التي تهتف بالسيادة وكراهية الغرب، ولكنها وبهزال يرقى للكوميديا الرخيصة ترفع الأعلام الروسية التي تؤكد سعي المافيا البوتينية إلى فتح الجبهات في أي مكان لمناكفة الأوروبيين والأميركيين الذين يدعمون الأوكرانيين في تصديهم للجيش الروسي!

لكن ما لا يستطيعه هؤلاء هو امتلاك القدرة على التفاوض وتغليب المصلحة الوطنية على نزعاتهم "الثورية" المعلنة، أو لنقل الورطة التي يوقعهم فيها التغرير الروسي، وهم إلى الآن يغلقون إمكانية التباحث بالحلول، ويمضون أسرع فأسرع نحو المشهد الدموي التقليدي الذي تختلط فيه الديموقراطيات الموءودة بمعارك بلا معنى، ومرتزقة يعبرون الحدود إلى حيث يسيل لعابهم من أجل المال والثروات الباطنية، بينما تضاف هذه البؤرة الصراعية إلى سجل الخراب الذي يجول حول الكوكب البائس.