النسيان والتجاهل هو أيضا إبادة

2023.12.17 | 06:35 دمشق

النسيان والتجاهل هو أيضا إبادة
+A
حجم الخط
-A

ماذا لو توقفت الأمم المتحدة عن تقديم المساعدات الإنسانية لسوريا مع بداية العام الجديد 2024 كما تقول حاليا العديد من التقارير الدولية؟ خصوصا تلك التي كانت تقدمها للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، وأيضا لمخيمات اللاجئين في الدول المجاورة لسوريا.

لو كان هذا صحيا فإنه سوف يعني حرمان الملايين من السوريين، معظمهم من النساء والأطفال، من القدرة على الاستمرار في العيش بعد سنوات طويلة من الحرب التي مازالت مستمرة حتي اللحظة في الشمال السوري المحكوم من قبل فصائل مسلحة تتصارع فيما بينها، بينما يواصل النظام وحلفاؤه قصفه للشمال مستهدفا المدنيين ومسببا المزيد من الكوارث الإنسانية والدمار في صمت وتجاهل دولي وعربي مريب ومحبط ومثير للاستغراب، وكأن هذا يحدث في كوكب آخر وكأن السوريين الذين يموتون يوميا هم وأطفالهم ليسوا أبناء هذه الأرض.

وفي نفس الوقت سوف يسبب قرار التوقف عن تقديم المساعدات إلى سكان المخيمات في الدول المجاورة  المزيد من السوء على أوضاعهم السيئة أصلا، وسوف يرفع من منسوب عنصرية الدول المضيفة نحوهم، وسوف يحول هذه المخيمات إلى بؤر يستهدفها تجار الكوارث البشرية، سواء من متطرفي الجهاد الديني، أو من تجار الرقيق الأبيض (النساء والأطفال)؛ حيث تشكل الحروب الطويلة فرصا استثنائية لمختلف التجارات الممنوعة والتي عادة ما تكون تجارات تعمل ضمن منظومات مافيوية دولية مرتبطة مباشرة بالنظام العالمي الحاكم الذي يملك وحده الحلول لكل هذه الكوارث مثلما يملك أسباب حدوثها.

وبطبيعة الحال يجب الانتباه إلى أن هذا لم يعد يختص بالشمال السوري والمخيمات فقط، بل نحن نتحدث عن كامل سوريا هنا، فباستثناء الطبقة المحيطة بالنظام والمستفيدة من الحرب والفساد والخراب القائم، فإن باقي الشعب السوري في كل المناطق يعيش في ظل كارثة معيشية وإنسانية تضع سوريا في ذيل قائمة الدول غير الصالحة للعيش في العالم. ما يعني أن مصير مناطق النظام لا يختلف كثيرا عن مصير المناطق الخارجة عنه سوى بتوقف القصف المباشر (إسرائيل تقصف يوميا أهدافا عسكرية ومنشآت مدنية في قلب العاصمة دمشق والساحل السوري وحلب).

الحروب الداخلية التي اندلعت بعد الربيع العربي تحولت إلي ضباع تنهش في حاضر هذه البلاد ومستقبلها ولا تتوقف؛ ولم يعد العالم والمجتمع الدولي يتذكر أصلا ما يحدث في هذه الدول

والحال إن سوريا كلها في ظل الأوضاع الحالية تتحول إلى بؤر متعددة جاذبة لكل أنواع الخراب؛ لم ينج منها حتى اللحظة سوى السويداء التي تواصل يوميات حراكها المدني ضد النظام منفردة ومتفردة سواء بآليات حراكها أو بصمت النظام عنها وتركها دون أي تدخل عسكري أو أمني.

لكن سوريا بما هي عليه حاليا وبما يمكن أن تؤول إليه أوضاعها وحالها ليست وحيدة في المنطقة العربية، ذلك أن الحروب الداخلية التي اندلعت بعد الربيع العربي تحولت إلي ضباع تنهش في حاضر هذه البلاد ومستقبلها ولا تتوقف؛ ولم يعد العالم والمجتمع الدولي يتذكر أصلا ما يحدث في هذه الدول.

غاب اليمن منذ زمن عن المشهد الإخباري العالمي لولا التدخل الحوثي الحالي في حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة، هذا التدخل أعاد اليمن قليلا إلى واجهة الخبر ولكن ليس بوصفه بلدا يتعرض لكوارث إنسانية وبشرية مهولة وينبغي الإسراع لإنقاذه وإنما بوصف ما يقوم به الحوثيون حربا بالنيابة عن إيران التي لم تتابع ما يحدث وهي تسحب أيديها من دعم المقاومة الفلسطينية. يحضر اليمن في الأخبار بوصفه جزءا صغيرا من مشهد كبير أما ناسه وسكانه وسوء أوضاعه الاقتصادية وانعدام الخدمات وانحدار المستوى المعيشي والصراعات السياسية والفساد والتبعية وكل النتائج الكارثية التي تنتج عن أحوال كهذه والتي تكون وبالا على الشعب في حاره ومستقبله وتحول البلد إلى بؤرة أخرى لكل أنواع الخراب، فهذا ليس في وارد أحد ولا يهم المجتمع الدولي على ما يبدو. واليمنيون مثلهم مثل السوريين تم تحييدهم عن المشهد الإنساني ويتم حاليا تجاهلهم كخطوة جديدة نحو تناسيهم بالكامل.

لا تبدو الأوضاع في ليبيا بأحسن بكثير من تلك التي في اليمن وسوريا، رغم محاولات الحكومة الحالية السيطرة علي الأوضاع وفرض بعض الأمن، لكن طبيعة المجتمع الليبي العشائري والذي ازداد تمسكا بهويته العشائرية بعد سقوط القذافي تجعل من فرض الأمن والاستقرار أمرا بالغ الصعوبة، كما أن انعدام البنى التحتية والحروب الداخلية الطويلة خلال العقد الماضي وعدم وجود حكومة وطنية تدين بالولاء لليبيا فقط، إضافة إلي الفساد المنتشر في كل المفاصل الرئيسة يحول ليبيا أيضا إلى بؤرة لكل أنواع الخراب، ويجعلها منسية من قبل العالم والمجتمع الدولي، بينما تتذكرها مافيات المصالح والسياسة والتي تنحي حضورها في المشهد الإخباري اليومي.

يعيش السودان أسوأ أيامه منذ الحرب التي بدأت في شهر أبريل الماضي بين القوات المسلحة السودانية وبين قوات الدعم السريع، أي حرب ميليشيات عسكرية بين طرفين كل منهما يدين بالولاء لجهة عربية ودولية مختلفة، وكل منهما تدعمه تلك الدولة أو الأخرى، بينما يدفع الشعب السوداني الثمن من حياته وأرواحه ومستقبله الذي انتهى تماما تحت أقدام الحاضر العسكري. خلفت هذه الحرب الدائرة حي اللحظة مئات آلاف الضحايا من القتلى والمعاقين والمشردين والمهجرين والهاربين واللاجئين، وخلفت كارثة معيشية واقتصادية مهولة، بينما السيناريوهات المقترحة للحلول تصب كلها في إطار المزيد من التقسيم للسودان التي يمتلئ باطنه بالثروات والذهب، ما يجعله أيضا بؤرة للخراب ويجعل من الحروب فيه حدثا متواصلا مخلفا يوميا المزيد من الضحايا الذين لم يعد يتذكرهم أحد ولم يعد يبالي بهم أحد وكأنهم منسيون تماما من قبل المجتمع الدولي الذي نحى أيضا أخبار السودان عن الواجهة في مقدمة لتجاهل أحداثه ثم نسيانها تماما، ونسيان كل ما تخلفه من كوارث بشرية وإنسانية مهولة؛ كأن السودانيين أيضا ليسوا من سكان هذا الكوكب وكأن السودان كله من كوكب آخر وما يجري فيه لا يمت لهذه البشرية بصلة.

ليس العراق بأفضل حالا ولا لبنان حتما. ففيهما ما يكفي من الخراب والفساد والدمار الاقتصادي والسياسي ما يجعل من مستقبلهما على كف عفريت وهما أيضا باتا في النسق الأخير من الخبر العالمي الذي يعيش على الأحداث الجديدة الطازجة ويطول المزيد منها. وبطبيعة الحال لن تكون مصر والمغرب وتونس والجزائر والأردن بحال أفضل كثيرا فيما لو استمر الانهيار الاقتصادي وارتفاع الأسعار وتردي المعيشة وتراجع التنمية والخدمات العامة مع أنه لا حروب لا داخلية ولا خارجية تنهك هذه الدول بل هي تعيش في ظل استقرار أمني كامل، لكن يبدو الأمر كما لو أن هناك قرارا ما للقضاء على كل ما يجعل من شعوب هذه الدول تتنفس وتعيش مثلها مثل باقي شعوب العالم.

ليست حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين هي الوحيدة، فما يحدث في الدول  المذكورة آنفا هي حروب إبادة بطرق مختلفة، فالتهجير إبادة، والتفقير إبادة، والتجويع إبادة، وفقدان الحاضر والمستقبل إبادة

لن يكون مستغربا لو اكتشفنا بعد أيام أن ما يحدث في فلسطين المحتلة سوف يبدأ في التراجع في قائمة الأخبار اليومية العالمية، (أخبرتني صديقة فرنسية أن المحطات الإخبارية الفرنسية بدأت تتجاهل ما يحدث في غزة ولم يعد الحدث الفلسطيني يتصدر واجهة الأخبار حتى لصالح إسرائيل). ذلك أنه بدأ يصبح خبرا مكررا، لا جديد فيه، مثلما حدث لكل الأحداث السابقة المشابهة (من يذكر الآن الحرب الروسية الأوكرانية؟). التي تستمر وتتواصل لكن يتم تجاهلها دوليا كما لو أنها لا تحدث وكما لو أنها غير موجودة وكما لو أن ضحاياها لا ينتمون إلى هذا الكوكب.

ليست حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين هي الوحيدة، فما يحدث في الدول المذكورة آنفا هي حروب إبادة بطرق مختلفة، فالتهجير إبادة، والتفقير إبادة، والتجويع إبادة، وفقدان الحاضر والمستقبل إبادة. العيش بلا كرامة وبلا أمل هو أيضا إبادة. ليس القتل هو الإبادة الوحيدة للبشر، هناك طرق كثيرة وللأسف كلها تجرب بنا، نحن شعوب هذه المنطقة المنكوبة والمنسية بكل كوارثها، أليس النسيان والتجاهل إبادة أيضا؟