المونديال يحيي القومية العربية

2022.12.14 | 06:24 دمشق

المونديال يحيي القومية العربية
+A
حجم الخط
-A

بث مونديال الكرة العالمي في الدوحة روحا جديدة في المنطقة العربية المثقلة بالانكسارات وخيبات الأمل، والباحثة عن اقتناص أي انتصار أو لحظة فرح حقيقية، غير تلك التي تصطنعها الأنظمة العربية، وتبثها عبر وسائل إعلامها.

وشكلت انتصارات المنتخب المغربي على العديد من الفرق العريقة، ووصوله إلى مراحل متقدمة، الرافعة الرئيسية لهذه الروح، فضلا عن نجاح المونديال بشكل عام من ناحية التنظيم والإدارة، ما جعل كل مواطن عربي يشعر بشيء من الفخر لهذه النجاحات.

والواقع أن الميل الفطري لدى غالبية الناس للتعاطف مع فرق العالم الثالث إذا كان الخصم هو من الدول الأوروبية، لا يفسر موجة الفرح العارم التي اجتاحت المنطقة العربية من المغرب إلى المشرق، وهو ما عكسته الاحتفالات الشعبية العفوية، وما حفلت به وسائل التواصل الاجتماعي.

الحدث إنتاج شعبي، وليس له صلة بمنجزات الأنظمة الوهمية، وهو ما يجعل التماهي معه خاليا من شبهة تملق الأنظمة التي يأنف منها كل إنسان حر

إنها ببساطة الروح القومية، والتي تحتوي في تفاصيلها الهويات التفصيلية للمنطقة، فالفرح لم يكن "عربيا خالصا" بل تشاركت به كل مكونات المنطقة من عرب وكرد وأمازيغ، إضافة لكل المذاهب والأديان، حيث الحدث إنتاج شعبي، وليس له صلة بمنجزات الأنظمة الوهمية، وهو ما يجعل التماهي معه خاليا من شبهة تملق الأنظمة التي يأنف منها كل إنسان حر.

إن هذه الروح التضامنية العفوية، برغم محاولات بعض "المثقفين المعقدين" الحط منها، هي الوجه الحقيقي لشعوب المنطقة التي ما تزال تحتفظ بروح متقدة، ومتأهبة للتفاعل مع أي شأن عام، برغم محاولات التغييب والقمع الوحشي الذي تعرضت له خلال العقود الماضية، وخاصة في السنوات الأخيرة، من جانب الأنظمة التي ترتعب من أي حراك أو حتى تعاطف شعبي عفوي، غير مفبرك مسبقا في مكاتب أجهزتها الأمنية.

وهذه الروح التي ظن البعض أنها انطفأت نتيجة محاولات التدجين المستمرة من جانب الأنظمة عبر أجهزتها الأمنية وخطابها الرسمي، تؤشر إلى حيوية شعوب المنطقة، وقدرتها على اجتراح الفرح من وسط المعاناة، وأن مخزونها من الأمل بغد أفضل، ما زال عامرا، لم تستنزفه الخيبات المتواصلة منذ عقود.

لقد نضجت فكرة العروبة، والقومية العربية بمفهومها المعاصر تدريجيا خلال العقود الماضية، وجاءت أولا ردا على سياسة التتريك التي اتبعتها السلطنة العثمانية في أواخر عهدها، ثم حملتها بعض المشاريع السياسية مثل الوحدة بين سوريا ومصر والشعارات التي رفعتها ثورة الضباط الأحرار في مصر وحزب البعث في كل من سوريا والعراق، ثم بروز قضية فلسطين مع إنشاء الكيان الصهيوني نهاية أربعينيات القرن الماضي، وبعد ذلك ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي والتي نالت تعاطفا شعبيا عربيا واسعا.

 وبعد مرحلة المد القومي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عاشت الفكرة القومية أوقاتا عصيبة مع توالي الانكسارات في المراحل اللاحقة بدءا من انكفاء التيار الناصري مع وفاة زعيمه جمال عبد الناصر، مرورا بتثبيت إسرائيل في المنطقة وحالة العجز المطبق من جانب الأنظمة حيالها، وصولا إلى حروب التحالف الدولي ضد العراق والتي أصابت الشعوب العربية بإحباط شديد وهي ترى كيف يدمر بلد عربي كبير وبمشاركة ولو رمزية من جانب أنظمة عربية.

لا يشعر المواطن العربي بانتماء حقيقي لوطنه الذي يراه مستلبا من جانب أقلية حاكمة تستحوذ على السلطة والثروة، وتخمد كل من يعارضها بالحديد والنار

ومع دخول المنطقة الألفية الثالثة، كانت فكرة القومية العربية تعيش أسوأ أوقاتها، نتيجة السياسات الانعزالية والتناحرية للأنظمة العربية، وارتمائها المكشوف في أحضان القوى الأجنبية، وتفرغها لقمع شعوبها ونهب ثرواتها، ما جعل تلك الشعوب تنأى بنفسها ليس عن فكرة القومية وحسب، بل وحتى عن الوطنية بمفهومها الضيق، حيث لا يشعر المواطن العربي بانتماء حقيقي لوطنه الذي يراه مستلبا من جانب أقلية حاكمة تستحوذ على السلطة والثرةة، وتخمد كل من يعارضها بالحديد والنار.

وجاءت ثورات "الربيع العربي" في العقد الثاني من الألفية لترسخ هذا المعنى بعد فترة وجيزة من التعاطف الشعبي مع الثورات الأولى في تونس ومصر، إذ سرعان ما تمكنت الأنظمة من استعادة زمام المبادرة، لتضع المواطن العربي من جديد أمام المعادلة القاتلة: "نحن أو الخراب"، ولتدفعه إلى عتبة جديدة من التراجع بحثا عن الخلاص الفردي وحسب، لتزدحم الحدود والمطارات والبحار بالفارين من أوطانهم الباحثين عن النجاة تاركين خلفهم الجمل بما حمل.

ومن هنا، فإن هذه الروح الجماعية التي ظهرت في مونديال قطر تشكل بشرى للقابضين على الجمر ممن ما زالوا يحلمون ببناء الوطن الصغير أو الكبير، وأن كل الخيبات والانكسارات لم تستطع كسر هذه الروح.