icon
التغطية الحية

المناخ وأثره على حضارات بلاد الرافدين في كتاب لـ المركز العربي

2022.09.10 | 16:57 دمشق

عراق
إسطنبول - متابعات
+A
حجم الخط
-A

"المناخ والحضارة: بلاد الرافدين نموذجًا" كتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات للباحث والأكاديمي العراقي خميس دحام مصلح السبهاني، يتحدث عن العلاقةَ بين المناخ والحضارة في بلاد الرافدين منذ الألف الثالثة قبل الميلاد.

واختار الكتابُ الذي جاء في 272 صفحة بلاد الرافدين نموذجًا لدراسة تلك العلاقة لسببين: أولهما أن المنطقة تعد ملتقى الأنماط المناخية العالمية المختلفة، ومتنوعة طبوغرافيًا؛ ما أدى إلى تنوع أنظمتها المناخية زمانيًا ومكانيًا، وفي حال حصول أي اختلال في التوازن سيؤدي إلى تغيرات مناخية حرجة.

أما السبب الثاني فهو أن بلاد الرافدين تعد مهد الحضارات الإنسانية الأولى الناضجة في جميع جوانبها المادية، والعماد الاقتصادي لهذه الحضارات هو الزراعة والإنتاج الزراعي، وأي تغير في المناخ له تأثيرات مباشرة في الإنتاج وما يتبعه من تأثيرات في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وأخيرًا السياسية.

جغرافيا بلاد الرافدين ومحيطها

تعتبر منطقة بلاد الرافدين/ ما بين النهرين، أو "الهلال الخصيب" أولى المناطق التي استوطنها الإنسان. وبحسب تصنيف المؤرخ أحمد سوسة، توزع سكان بلاد الرافدين القدامى على أربعة أصناف، تبعًا لنمط حياتهم الزراعية وظروف معيشتهم؛ يمثل الصنف الأول سكان المناطق الجبلية في شمال العراق الحالي، ويُرجَّح أنهم سكنوا هذه المنطقة منذ أقدم العصور، وهم أول من مارس الزراعة وأسّس القرية في بلاد الرافدين.

الصنف الثاني يمثله "الرعاة"، وموطنهم الأصلي بادية الشام والجزيرة العربية، في حين يمثّل الصنف الثالث الجماعات الساميّة التي استقرت على شواطئ نهر الفرات، ونزحت من شبه الجزيرة العربية عقب حدوث الجفاف التدريجي هنالك بعد العصر الجليدي الأخير، وكانوا أول من أسّس المدن بوصفها نواة للإمبراطوريات القديمة، كما هي الحال في الإمبراطوريات الأكدية والبابلية والآشورية. ويمثل الصنف الرابع والأخير سكان الأهوار في جنوب بلاد الرافدين.

ووفق هذا التقسيم لسكان بلاد الرافدين القدامى، يبدو أنهم أتوا إلى هذه المنطقة من أقاليم ووجهات جغرافية عدة؛ فمنهم من أتى من شبه الجزيرة العربية وبادية الشام، ويمثّلون أغلبية سكان العراق الحالي، وهم الساميّون. ومنهم السومريون والأقوام الجبلية التي دخلت العراق في أوقات متباينة، فاختلف العلماء في تحديد موطنهم الأصلي الذي هو، على الأغلب، الهضبة الإيرانية وامتدادها إلى شمال الهند وأواسط آسيا وبحر قزوين، ولا وجود لهم في العراق الحالي، باستثناء الأكراد الذين هُم من بقايا الميديين.

المناخ وتقلباته في بلاد الرافدين

في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد، كان مناخ بلاد الرافدين يقع تحت تأثير الأمطار الشتوية الناتجة من المنخفضات الجوية المتوسطية، تبعًا لمناخ البحر المتوسط. ومن جانب آخر، يبدو أن بلاد الرافدين الجنوبية كانت لا تزال تتأثّر بأطراف الأمطار الموسميّة الصيفية الناتجة من الرياح الموسمية القادمة من المحيط الهندي؛ أي إن مناخ بلاد الرافدين كان يتمتع بنظام أمطار دائمة.

ومع اقتراب نهاية الألفية الثالثة ق.م، تراجع نطاق الرياح الموسمية الصيفية جنوبًا إلى المناطق التي يحدث فيها اليوم أو قريبًا منها، في حين بقيت جميع أجزاء بلاد الرافدين بعيدة من تأثير الأمطار الموسميّة الصيفيّة، وواقعة تحت تأثير الأمطار الشتوية الناتجة من المنخفضات الجبهوية القادمة من الغرب.

الرأي المتعلق بإمكانية سقوط الأمطار الموسميّة على وسط العراق وجنوبه في النصف الأول من الألفية الثالثة ق.م، يمكن تدعيمه هنا بدليلين أساسيين إضافيين: أولهما هو أنه على الرغم من أن كثيرًا من سجلات المناخ القديم بكل أنواعه، وخصوصًا تلك التي عُنيت بدراسة الأمطار الموسمية في وسط "الهولوسين" ونهايته، بدأت تتراجع منذ عام 3000 ق.م، فإن تراجع جبهة اللقاء دون المدارية (ITCZ) نحو الجنوب، وما رافقه من ضعف في الموسميات، كانا بشكل تدريجي لا بشكل مفاجئ، وذلك نتيجة للانخفاض التدريجي في الإشعاع الشمسي.

استمر هذا التحول مدة طويلة من الزمن إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن؛ ما فسح المجال للأجزاء الجنوبية والوسطى من بلاد الرافدين للتأثّر بهذه الأمطار مدة أطول، مع العلم أن الفترة 3000-2000 ق.م شهدت نشاطًا في الموسميات الصيفية تبعًا لما تبين لنا من خلال عدد من الدراسات التي عُنيت بالتحقق من نطاقات الأمطار الموسمية. وقد أشارت تلك الدراسات إلى وصول الأمطار الموسميّة الصيفية إلى خليج العقبة في الأردن خلال نفس المدة.

أما الدليل الثاني فيُستمد من مصادر التاريخ والآثار، وكما هو مبين في مرثية انهيار سومر وأور، التي ذكرت الجفاف والمجاعة وهجر المدن وتدميرها، ابتداء من الجزء الشمالي من مركز الإمبراطورية، ممثلًا بمدينة كيش في وسط بلاد الرافدين، باتجاه الجنوب نحو مدينة أور، والتي كانت آخر مدينة تعرضت للجفاف والتدمير. وهذا يعني أن الجفاف وفشل المحاصيل الزراعية يتمددان بصورة تدريجية من الشمال إلى الجنوب، متماشيين مع التراجع التدريجي للأمطار الموسمية الصيفية نحو الجنوب. وكما بيّنا سابقًا، فإن فصلية سقوط الأمطار في بلاد الرافدين أخذت شكلها الحالي منذ نهاية الألفية الثالثة.

أما الفترة ما بين 2200-900 ق.م فكانت عمومًا بين جافة وشبه جافة، وخصوصًا في وسط بلاد الرافدين وجنوبها، في حين شهد المناخ تحسّنًا من حيث التساقط المطري بعد عام 900 ق.م، مع الاقتصار على نمط الأمطار الجبهوية الشتوية.

تقلبات المناخ ومراحل تطور المجتمعات البشرية في العراق القديم

منذ بداية عصر السلالات الباكرة حتى نهاية حكم الإمبراطورية البابلية الحديثة، يتضح وجود دور محوري للمناخ في نشأة الحضارات في بلاد الرافدين ونضجها ثم انهيارها، سواء كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فالطريقة المباشرة كانت أكثر وضوحًا في المناطق التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة البعلية، ممثلة بشمال بلاد الرافدين، وكان لأي تغير في كمية الأمطار الساقطة انعكاس مباشر على كمية الإنتاج الزراعي ونوعه سلبًا أو إيجابًا، ومن ثم انعكاسه على استقرار المجتمعين الزراعي والرعوي وعدم استقرارهما على حدّ سواء، في حين كان التأثير غير المباشر يتمحور في جنوب بلاد الرافدين بشكل أوضح؛ إذ إن الانخفاض في كمية الأمطار ساهم في ارتفاع أعداد السكان في مدن الجنوب، القادمين من المناطق الهامشية المحيطة وخصوصًا من الشمال، نتيجة المجاعات التي خلّفها فشل المحصول هنالك، بشكل يفوق طاقة الزراعة المروية. يضاف إلى ذلك انخفاض إنتاجية الأراضي الزراعية المروية نتيجة ارتفاع نسبة الملوحة فيها؛ ما أدى إلى تفكّك المجتمعات وانهيارها سياسيًا وإداريًا ومن ثم اندثارها، والعكس صحيح.

وظهرت أيضًا 3 حقب زمنية شهدت تأثيرًا إيجابيًا للمناخ في الهيكل الحضاري، اثنتان منها شهدتا تحسّنًا مناخيًا كبيرًا؛ إذ ارتفعت كمية الأمطار الساقطة، ورافق ذلك زيادة التعقيد في البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات البشرية حتى وصلت إلى مستوى الإمبراطورية العظمى، ومركزها في بلاد الرافدين، وخضعت لها مناطق الشرق الأدنى كلها وصولًا إلى أواسط آسيا، وتحكمت في جميع الخطوط التجارية الرئيسة في العالم القديم.

هاتان الحقبتان شغلتا معظم الألفية الثالثة والأولى ق.م إذ بدأت الأولى في القرن التاسع والعشرين ق.م، وانتهت في القرن الثالث والعشرين ق.م، في حين امتدت الثانية من القرن التاسع ق.م إلى نهاية القرن السادس ق.م تقريبًا، وشملت كلتاهما ظهور الإمبراطوريات العظمى في تاريخ العراق القديم (السومرية "عصر السلالات الأولى"، والإمبراطورية الأكادية، والإمبراطورية الآشورية الحديثة، فضلًا عن الإمبراطورية البابلية الحديثة).

أما ما يتعلق بالمدة الثالثة، فعلى الرغم من تحسن المناخ تحسنًا واضحًا، وظهور المجتمعات ذات التعقيد في التركيب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيها، متمثلة في سلالة بابل الأولى أو ما يُعرف بمدة حكم حمورابي، والعهد الكاشي والسلالة الآشورية المتوسطة، فإنها لم تصل إلى مستوى المدّتين السابقتين، لا من حيث مستوى التحسن في المناخ، ولا من حيث التعقيد الاجتماعي، ولا من حيث قوة وحجم الإمبراطورية.

الجانب السلبي لطبيعة العلاقة، تمثّل في ظهور حقبتين بارزتين شديدتي الجفاف في بلاد الرافدين وإقليم شرق البحر المتوسط والشرق الأدنى كله أيضًا، بالتزامن مع انهيار كامل للمجتمعات الحضرية في بلاد الرافدين حتى أُطلق على المدتين ما يُعرف بـ "العصور المظلمة"، فشملت الحقبة الأولى نهاية الألفية الثالثة وبداية الألفية الثانية ق.م، في حين شملت الثانية نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الأولى ق.م.

احتوت الحقبتان الجافتان المشار إليهما سالفًا، فاصلتين لا يتجاوز زمن الفاصلة الواحدة منها قرنًا واحدًا، يشهد فيهما المناخ تحسنًا كبيرًا، متبوعًا بانتعاش حضاري بارز؛ إذ اقترنت الفاصلة الأولى -من وجهة النظر التاريخية- بظهور إمبراطورية أور الثالثة، ما يعرف بـ "الانبعاث السومري"، في حين اقترنت الفاصلة الثانية بانبثاق المملكة الآشورية الوسطى، وعصر الملك "تجلات بلاسر" الأول.

لعبت الظروف المناخية دوراً غير مباشر بانتقال مراكز الحضارة بين أقسام بلاد الرافدين من الجنوب إلى الشمال، على شكل مراحل متباعدة كالآتي: في المرحلة الأولى، انتقل مركز القيادة السياسية والاقتصادية من السهل الجنوبي إلى وسط بلاد الرافدين (بابل) في حدود القرن التاسع عشر ق.م، وما عاد إلى جنوب بلاد الرافدين إطلاقًا، على الأقل خلال مدة الدراسة، بعد أن كان موقعه يراوح بين الجنوب والوسط. وجاء هذا الانتقال بعد أن تدهورت إنتاجية الأراضي الزراعية في جنوب بلاد الرافدين نتيجة تشبعها بالملوحة الناجمة عن التدهور المناخي الذي بقي حتى اليوم.

في حين أن الانتقال الثاني تزامن مع توثيق ذروة الملوحة الثانية، حيث أثبت وجودها في الأراضي الزراعية ضمن إقليم بابل في وسط بلاد الرافدين في بداية عام 1300 ق.م؛ إذ لاحظنا انتقال المركز السياسي من مدينة بابل إلى مدينة آشور في شمال بلاد الرافدين، وما عاد إلى وسط بلاد الرافدين حتى نهاية القرن السابع ق.م نتيجة الازدهار الزراعي في إقليم بابل.