فجأة ودون سابق إنذار، انسحبت القوات الروسية من الضفة الغربية لنهر دينيبرو، وتركت مدينة خيرسون الاستراتيجية، لتدخلها قوات النخبة الأوكرانية بكل هدوء، مما سبّب إحباطاً كبيراً لدى معسكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي استكمل سحوبات التعبئة الجزئية لديه، بنحو ثلاثمئة ألف جندي، حيث كان يتردد داخل المعسكر الروسي أن حرب الشتاء الطويلة ستبدأ مع بدايات التساقط الثلجي، تلك الحرب التي منحت الجيش الأحمر عدة مرات عبر التاريخ سبق التفوق، نظراً للخبرة العسكرية الجيدة للعسكر الروسي في التعامل مع االظروف الجوية الباردة و المثلجة في أقسى درجات التجمد انحداراً، كما حصل في حروب نابوليون ضد روسيا، وحروب هتلر بعدها كذلك..
لكن ما حصل كان غير هذا تماماً، فها هو الجيش الأحمر ينسحب طوعاً من خيرسون، المدينة التي تمنح المسيطر عليها تحكماً جيداً جداً في الإقليم وعلى الموارد المائية التي تذهب إلى شبه جزيرة القرم، وعليه فالانسحاب العجائبي الغريب من الضفة الغربية لنهر دينيبرو وتدمير الجسور الموصلة بين الضفتين هو أمر يستدعي التأمل قليلاً، فمن المنظار العسكري يعني ألا عودة إلى الضفة الأخرى، وأن القوات الروسية أحرقت سبل العودة السهلة إلى الطرف الآخر، وخسارة مدينة (روسية) كانت قد انضمت إلى الفيدرالية الروسية قبل أسابيع، بهذه الطريقة، هي هزيمة بالعرف العالمي، فمن المنظور البوتيني يعد الانسحاب استسلاماً وانهزاماً، خصوصاً أنه لم يكن تكتيكياً بمعنى أن القوات المنسحبة ستعيد تجميع نفسها ومعاودة الهجوم بعد فترة، لا بل على العكس فالقوات الروسية ضمنت عدم عودتها إلى مدينة خيرسون نهائياً، إلا عن طريق الإنزال الجوي الذي سيكلفها كلفة بشرية كبيرة.
من المنظور السياسي يبدو الأمر أشد وضوحاً، فالانتخابات الأميركية قد أُسدلت، وتم عبور خطر سيطرة الجمهوريين الكاملة على مجلسي النواب والشيوخ، وبالتالي ضمنت إدارة بايدن القدرة على التحكم بمقاليد الأمور لسنتين إضافيتين، لذلك فأي تفاهمات عالقة مع بوتين يمكن أن تمر الآن بسلام سياسي
أما قياس الانسحاب الهزائمي من المنظور التعبوي الذي يعتمد عليه المعسكر الروسي ومن لف لفهم، من الناحية النفسية والتوجيهية، التي تسخّر كل جهدها لحشد أكبر قدر ممكن من البشر خلف أية قضية تخالف مفاهيم العصر وقيم حقوق الإنسان، فهو كارثة في كل المقاييس، فالمدينة الهامة، قد دخلتها قوات النخبة الأوكرانية، ورفعوا الأعلام الوطنية الصفراء، وأنزلوا الأعلام الروسية وصور بوتين ذاته من فوق الأبنية الرسمية، وكأنّ القوات الروسية لم يكن لديها الوقت لتزيل صور قائدها الذي لا سبب آخر لقتالهم سوى أوامره..
ولكن من المنظور السياسي يبدو الأمر أشد وضوحاً، فالانتخابات الأميركية قد أُسدلت، وتم عبور خطر سيطرة الجمهوريين الكاملة على مجلسي النواب والشيوخ، وبالتالي ضمنت إدارة بايدن القدرة على التحكم بمقاليد الأمور لسنتين إضافيتين، لذلك فأي تفاهمات عالقة مع بوتين يمكن أن تمر الآن بسلام سياسي، لذلك فكل المؤشرات تقول إن هذا الانسحاب ما هو إلا مبادرة حسن نوايا قامت بها القوات الروسية من أجل فتح باب التفاوض مجدداً مع الغرب، وتحديداً مع واشنطن، فالرئيس التركي أعرب عن ارتياحه للانسحاب الروسي، والرئيس الفرنسي كذلك، وكأنها بادرة انصياع لتحريك الموقف على أساس لا غالب ولا مغلوب، فيكون الطرفان كلاهما منتصرين في هذه الحرب العبثية، فالأوكران حرّروا مدينة أساسية، ورفعوا الأعلام وأزالوا رموز الاحتلال، الروس ضموا أربعة مقاطعات وأعلنوا نهاية العملية الخاصة.. ما قبل الحرب المفتوحة التي لا يريدها أحد.
إذاً هي حرب تحريك، تشبه إلى حد بعيد حرب العبور التي صرح بها الرئيس المصري أنور السادات في مباحثاته مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي، أن حرب أكتوبر ليست حرب تحرير بقدر ما هي حرب تحريك، لكسب قطعة أرض، أو انتصار عسكري يمنح للطرف الآخر القدرة النفسية على الجلوس على طاولة المفاوضات، كندٍّ سياسي، وليس كخاسر عسكري، فمن حيث المبدأ العسكري، لا تفاوض بين خاسر ورابح، وإنما هنالك وثيقة استسلام، وما يريده الجميع في أوكرانيا هو طاولة مفاوضات هادئة بعيداً عن التجييش والشعبوية التي انتهجها الطرفان، للاتفاق على الفترة المقبلة، بعد أن استبدل بوتين العائد الغازي الهائل بأراض أوكرانية تضم ثروات معدنية وزراعية.
ها هو العالم يتجه إلى بداية النهاية للحرب في أوكرانيا، وها هي الشخصية الوطنية الأوكرانية تتشكل تحت سطوة الضغط الروسي، وها هو بوتين يصارع للخروج من عنق العقوبات التي ستشل بلده على المدى الطويل..
ها هو العالم يتجه إلى بداية النهاية للحرب في أوكرانيا، وها هي الشخصية الوطنية الأوكرانية تتشكل تحت سطوة الضغط الروسي، وها هو بوتين يصارع للخروج من عنق العقوبات التي ستشل بلده على المدى الطويل، وهو وفريقه يعلم هذا جيداً، وهذا زيلينسكي سيعلن نفسه بطل التحرير والصمود في وجه مسح الدولة الأوكرانية، حيث يبدو الجميع منتصراً، بينما خسر عشرات الآلاف أرواحهم نتيجة هذه المعركة العبثية، كي يصل الطرفان إلى طاولة مفاوضات متزنة، بينما كان يمكنهما فعل ذلك قبل اندلاع المعارك.. وجميع خبراء المفاوضات يعلمون أن معارك صغيرة ستندلع في خضم المفاوضات للضغط على الأطراف في تفاصيل معينة، وستطرح قضايا دولية بين القطب الأميركي والطرف الروسي، ربما ستكون سوريا إحداها أو ايران..
لكن لا يبدو الحل مستحيلاً بعد خيرسون أبداً، لكننا بكل تأكيد عبرنا قمة الجبل، وبتنا في مرحلة النزول من قمة الأزمة.