المعضلة الروسية.. خمسمئة يوم على الحرب

2023.07.12 | 06:17 دمشق

المعضلة الروسية.. خمسمائة يوم على الحرب
+A
حجم الخط
-A

تمر هذا الأسبوع ذكرى مرور خمسمئة يوم على بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، وسط تخبط واضطراب وفوضى شكلتها هذه الحرب التي قام باتخاذ قرارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، بمساندة ثلة من جنرالاته من المؤسسة العسكرية، ومن اللافت أن قرار الحرب قد اتخذ بمعزل عن الرأي الذي قدمته الاستخبارات الروسية بشقيها الأمني والعسكري، فالقرار حسب وكالات الأنباء العالمية هو قرار الرئيس ومن حوله فقط، وليس قرار دولة، أو برلمان، أو حتى رد فعل دفاعي، وإنما سوّق القرار على أنه رد فعل استباقي على اقتراب الناتو من حدود الفيدرالية الروسية، وأن ما تفعله القوات المسلحة الروسية ما هو إلا رد فعل احترازي و"عملية عسكرية خاصة" وليس إعلان حرب.. طبعاً كل ما قيل من هذا القبيل هو محض كذب، فالحرب ليست "عملية خاصة" كما يُصر الرئيس الروسي وإعلامه، والهدف المعلن بشأن إقصاء حلف الناتو عن الحدود الروسية تمرغ في وحول شرق أوروبا، فأدى إلى عكسه تماماً، فحلف الناتو، لم يعد فقط في أوكرانيا، وإنما دخلت دول أخرى تتشاطر الحدود الطويلة مع الفيدرالية الروسية إليه، فنلندا، التي خاضت حربين كبيرتين ضد روسيا في مئة عام، والتي تحتل روسيا أراضيَ منها، دخلت عملياً الحلف منذ أشهر، والسويد التي تتشاطر الحدود البحرية مع روسيا ستدخل قريباً، أما أوكرانيا فباتت عضواً غير معلن في الحلف، من حيث التسليح والاستخبارات، بل بات الشعب الأوكراني في حالة عداء وبقاء شرسة ضد حكومة بوتين، لم تكن عليه قبل الحرب، أما أغلب شعوب أوروبا التي ضاقت ذرعاً من الحروب، فهي أيضاً باتت تحسب حساباً لانفلات الجنون العسكري من الشرق نحو أراضيهم، بلغاريا ورومانيا، سلوفينيا، دول البلطيق، ألمانيا نفسها أعلنت خروجها من حالة اللاتسليح ودخول ماكينتها الصناعية عالم الصناعات العسكرية تحسباً لمواجهة مع الروس خلال هذا العقد.

أما عن نتائج تلك الحرب، فقد تجاوزت خسائر الجيش الروسي، خسائر سابقه الجيش السوفييتي في أفغانستان، وسط تخبط عسكري كبير، وانشقاقات وتبديل قادة عسكريين، وتمرد مسلح قاده أحد قادة الميليشيات المنتشرة في البلاد الروسية، فوسط عدد من الميليشيات (منها ميليشيا أحمدوف، وفيلق الحرية الروسي) شنت ميليشيات فاغنر تمرداً شهيراً الشهر السابق، ليس بهدف إسقاط الحكومة، وإنما لتوجيه أنظار الرئيس إلى ضرورة تغيير رأس الآلة الحربية الروسية في وزارة الدفاع. تخيلوا هذا، رئيس ميليشيا يطالب بتغيير وزير دفاع.

يخشى الرئيس الروسي في ما يخشاه انفلات الأمر ضده، وهو يعلم، بأن الغرب ينتظر منه الدخول الشامل في الحرب، كي يصطاده للمرة الثانية كما فعل في المرة الأولى

وسط كل هذا تتدفق الأخبار عن تزويد حلف الناتو لأوكرانيا بالذخيرة العنقودية، ضمن تحذيرات من استخدامها بعقلانية، كما صرحت الناطقة باسم الخارجية الأميركية، وهل يمكن استخدام الذخيرة العنقودية بطريقة عقلانية؟.

حذرت وزارة الدفاع الروسية من هذا التصعيد، وطالب العديد من السياسيين فلاديمير بوتين، "بإعلان التعبئة العامة، وعدم التهاون مع فكرة الحرب، عبر تسخيفها والتعالي عليها بتسميتها "عملية خاصة"، وخوضها كما يخوض الجيش الروسي الحروب عادةً".

ولكن يخشى الرئيس الروسي في ما يخشاه انفلات الأمر ضده، وهو يعلم، بأن الغرب ينتظر منه الدخول الشامل في الحرب، كي يصطاده للمرة الثانية كما فعل في المرة الأولى حينما ورطه في الاجتياح الأول في 22 فبراير 2022، فكلفة الحرب الشاملة تعني اضطراباً شاملاً في المعسكر الداخلي لروسيا، تعني تعبئة عامة، وعسكرة المجتمع عبر سياقة عشرات الآلاف من الشباب إلى الجبهات وخفض مستويات العمالة، وازدياد الهجرة و الفرار من فئة الشباب، تعني مزيداً من الانفاق العسكري، تعني دماراً شاملاً للمدن والبنية التحتية، في روسيا وأوكرانيا على حد سواء، تعني تسخين الأجواء عالمياً وربما اضطراب سلاسل التوريد الغذائية، الحرب الشاملة تعني أيضاً احتمالية اللعب الصفرية، فإما فائز منتصر يحصد كل شيء، أو فاشل مهزوم يخسر كل شيء، بما فيه النظام و الدولة وربما تفكك الفيدرالية، وهو ما تستشعره الاستخبارات من تحركات الغرب، من حدود روسيا مع كوريا الشمالية وحتى حدود فنلندا.

الغرب لديه خبراء نفسيون دقيقون، وهو قد درس شخصية بوتين بتروٍّ، فهو عنيف، يخشى الإحراج، وخصوصاً أمام كوادره وجنرالاته، فبعد تجاهل الغرب له ولإنذاراته، وتجاهله تماماً، دخل الحرب، وتبعثر الجيش وساءت الحالة الاقتصادية، وانتشرت الميليشيات

اليوم ستعقد قمة الناتو في فيلينيوس، ليتوانيا، التي ستكون بمنزلة استعراض من الحلف، ضد بوتين نفسه، بعد إنذاره الشهير للحلف، بتقديم ضمانات مكتوبة تتضمن عدم انضمام دول جديدة للحلف، ففي هذه القمة سيحضر هؤلاء الأعضاء الجدد برفقة زيلينسكي نفسه..

فاللعبة النفسية تشغل حيزاً كبيراً في الحرب القائمة، الغرب لديه خبراء نفسيون دقيقون، وهو قد درس شخصية بوتين بتروي، فهو عنيف، يخشى الإحراج، وخصوصاً أمام كوادره وجنرالاته، فبعد تجاهل الغرب له ولإنذاراته، وتجاهله تماماً، دخل الحرب، وتبعثر الجيش وساءت الحالة الاقتصادية، وانتشرت الميليشيات.

فما الذي بقي من خيارات لدى بوتين، الخيار النووي؟

في كل شهر يخرج نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، ميدفيديف، ليذكر العالم بالخيار النووي، وبأن روسيا مستعدة لاستخدامه. ولكن بوتين لن يجرؤ على هذا.. فحتى القنابل التكتيكية النووية، ستعني عملياً حرباً شاملة ضده، حرباً لن تنتهي إلا بسقوط موسكو أو سقوط لندن!..والجميع يعلم إلى أين سترجح الكفة في هذا النوع من الحروب العدمية الصفرية.

إذاً الخيار المتبقي هو الالتزام بقواعد الاشتباك المفروضة من قبل الغرب، حرب تقليدية تستمر كما الـ500 يوم المنصرمة، خسائر بشرية واستنزاف، فوضى متصاعدة، ضعف اقتصادي، وتدرج في فقدان السيطرة من قبل القيادة المركزية الروسية على باقي البلاد والمستعمرات الجديدة.

تدخل الحرب الروسية على أوكرانيا يومها الـ500، وبوتين يدخل عقده الثامن، وسنته الثالثة والعشرين في الحكم، فأي إرث سيتركه بوتين على الإمبراطورية الروسية، المترامية الأطراف، هل التثبيت أم التشتت؟