المشتركات السورية المفقودة

2023.01.06 | 06:11 دمشق

المشتركات السورية المفقودة
+A
حجم الخط
-A

قليلة هي الأشياء التي باتت توحد السوريين وتعيد ربط لحمتهم الوطنية المفقودة، أو بالأصح لم يعد هناك ما يمكنه أن يفعل هذا، قضت عشر سنوات من الحرب والاصطفافات إثر الثورة السورية عام ٢٠١١ على كل ما كان يجمع السوريين كشعب واحد، بات الشعب السوري شعوبا عديدة، مختلفة ومتناحرة ومتصارعة ومتعادية، إن لم يكن هذا العداء علنا فهو مضمر ومخفي وباطني، ستراه مجسما في الأحاديث في المجالس الخاصة بكل مجموعة بشرية سورية، كما ستراه مجسما في النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد تراه أمامك في تغريبتك، في تعامل الآخرين معك، عندما يسألونك عن مكان مسقط رأسك ويفرحون أو يبتسمون ابتسامة باهتة حسب اصطفافهم السياسي الراهن، الاصطفافات السورية الحالية هي اصطفافات سياسية هكذا كانت في البداية، علينا أن نتذكر هذا، ثم تحولت بعد برهة قصيرة إلى اصطفافات مذهبية وقومية، ثم ظهرت من الانقسام مسارب جديدة لمزيد من التشرذم، كالمناطقية والقبلية والعائلية والطبقية الخ.

أخذ الانقسام السوري مساراته في الاتجاهين الشاقولي والأفقي، ونادرا ما تقاطعت هذه الانقسامات بحيث يبدو الحال السوري وكأن كل فئة متربصة بالأخرى وجاهزة للتصويب، لم يستطع الوضع المعيشي والاقتصادي المنهار أن ينحي تلك الانقسامات، كل طرف يحمّل الطرف الآخر مسؤولية ما حدث ويحدث، وكأن الجميع تناسوا أن نظاما كاملا محميا من المجتمع الدولي يفعل فعلته بسوريا ويراقب ما اقترفته يداه من القتل والتدمير والتشريد والإذلال وهدر الكرامات وبيع وتأجير وانتهاك واستنزاف كل ما له علاقة بسوريا الماضي والحاضر والمستقبل.

الوطن هو الهوية الأولى، مع فقدك لتلك الهوية سوف تكتشف أنك بدأت تتخلى عن كل حيثياتها التي تمايزك كفرد في مجموع ينتمي إلى هوية مؤكدة وجامعة وموحدة

فقد السوريون مع الحرب وطنهم، لم تعد سوريا وطنا لأحد، إلا لتجار الحرب والموت، ومع فقد الوطن سوف تشعر أنك تفقد كل القضايا المرتبطة بهويتك الوطنية، الوطن هو الهوية الأولى، مع فقدك لتلك الهوية سوف تكتشف أنك بدأت تتخلى عن كل حيثياتها التي تمايزك كفرد في مجموع ينتمي إلى هوية مؤكدة وجامعة وموحدة، لم يعد لدينا، نحن السوريين ما نفاخر ونباهي به؛ الحضارة القديمة التي يحاول بعض السوريين الانتساب لها والاستعلاء بها على آخرين هي قديمة جدا ولا شيء يثبت انتماء أحد لها، (التاريخ الحضري البشري مر بمئات المتغيرات البيولوجية ما جعل الأنساب والأعراق تختلط وتمتزج وتنمحي خصوصيات كل عرق مع الزمن). كما أن ما حدث خلال العقد الماضي أثبت أن المواطنة لدى السوريين هي فكرة خيالية لا ملمس لها على أرض الواقع مثل فكرة الدولة الوطنية الجامعة.

ما من بصمة خاصة بشأن سوري ما استطاعت الصمود خلال العقد الماضي، حتى ليخال المرء أن الشعب السوري عقيم، لا شيء يميزه، لا فنون لا ثقافة لا علم لا فلسفة لا فكر لا رياضة لا صحافة لا مشاريع كبيرة لا شيء على الإطلاق، ما يظهر هنا وهناك من تفوق في مجال ما هو فردي محض ولا يدل على ما هو جمعي متمايز، علينا أن نعترف بهذا وأن نقول أيضا إن هذا التصحر والجفاف هو نتيجة طبيعية لتجريف المجتمع السوري خلال عقود طويلة من روافع أساسية لأي نهضة أو تقدم وطني: المدنية والمواطنة والثقافة. حيث استطاع نظام الأسد خلال العقود الماضية تجريف المجتمع السوري تماما (شأن معظم المجتمعات العربية التي حُكمت من أنظمة الاستبداد العسكرية، يستثنى من هذا مصر التي استطاع حجمها السكاني الكبير ونهضتها الإبداعية المهولة حتى منتصف القرن الماضي النجاة بها قليلا من محاولات العسكر والاستبداد لتجريفها ووأد منابع إبداع مجتمعها وإلغاء هويتها الوطنية رغم تعثر هذه الهوية مرات كثيرة).

تمت عسكرة المجتمع السوري بالكامل، الطلائع والشبيبة والفتوة هي نماذج واضحة عن هذه العسكرة، يتذكر كثر من السوريين كيف كنا نساق في الإعدادية والثانوية إلى حقول الرمي لنتدرب على إطلاق الرصاص على العدو، وكيف كنا نتدرب في المدارس على فك السلاح وتركيبه في حصص الفتوة العسكرية، هذه العسكرة تحولت مع الوقت إلى آلية تفكير جمعية استطاعت مسارات الثورة كشفها وفضحها في المجتمع السوري العقائدي، كما أراد له نظام الأسد الأب أن يكون.

فرضت العسكرة أيضا التشابه، فاللباس الموحد في المدارس والجامعات لم يكن مجرد تقليد شكلي، بل هو ترسيخ للاوعي جمعي يرفض الاختلاف ويسعى لأن لا يخرج أحد عن الإجماع العام، السياسي والاجتماعي، وهو ما كان يجعل المجتمع يسم معارضي نظام الأسد بالخونة وعملاء الصهيونية ويحاول إقصاءهم عن الحياة العامة وعزلهم مجتمعيا (تهمة الخيانة والعمالة للصهيونية هي التهمة المستمرة حتى الآن لدى مؤيدي الأسد مضافة إليها تهمة الإرهاب طبعا الموجهة لكل من خرج ضد نظام الأسد). هذا الميل للتشابه المرسخ في اللاوعي الجمعي السوري قد يكون مدخلا للإجابة عن سؤال النجاح الذي شهدته ظاهرة القبيسيات في الانتشار في المجتمع السوري المديني السني، خصوصا لدى الطبقة المتوسطة منه، ثم لاحقا في المدن الصغيرة والأرياف، (ترافق هذا مع مد ديني رجعي كان يجتاح العواصم والمدن العربية كلها رصدت لأجله ميزانية بالغة الضخامة لم يكشف عن حجمها حتى الآن). في مقابل ظاهرة القبيسيات في المجتمع السوري السني، كانت الأقليات تزداد تقوقعا ضمن مجتمعاتها وتنشئ كينوناتها المذهبية الخاصة بها، والتي لا تختلف جوهريا عن ظاهرة القبيسيات لكنها محكومة ظاهريا بعادات وتقاليد كل أقلية.

لسوء الحظ، تسيّد الثورة لاحقا أكثر معارضي النظام تشبها به، تم إقصاء صفة المدنية عن الثورة لصالح العسكرة والدين، وتم إبعاد وعزل شباب الثورة بكل الوسائل الممكنة

الدين مقابل التخلي نسبيا عن العسكرة، والفتك تماما بالمدنية، بكل ما تنتجه من تأصيل للوعي والاعتراض والمشاركة والمطالبة والانتباه للحقوق والواجبات والاختلاف والحريات الفردية والجمعية (خلال السنوات العشر الماضية أظهر المجتمع الثوري السوري ميلا واضحا للفتك بالمختلف عن السائد). والفتك بالمدنية هو قضاء مبرم على الهوية الوطنية والمواطنة والدولة الوطنية لصالح هويات ضيقة ودولة المحاصصة والمصالح والمحسوبيات والفساد. في ذات الوقت كانت الثقافة السورية على كل مستوياتها تقاوم محاولات تدجينها وتجييرها لصالح المنظومة الذهنية الرافضة للاختلاف السياسي والمجتمعي والفكري، لكنها لم تستطع النجاة  أمام المد المجتمعي الرجعي المتحالف مع السياسي المستبد المنتج للتصحر والفراغ في بنية الدولة والمجتمع.

لم يستطع المجتمع الثوري السوري النجاة من هذا الخراب، بل، لسوء الحظ، تسيد الثورة لاحقا أكثر معارضي النظام تشبها به، تم إقصاء صفة المدنية عن الثورة لصالح العسكرة والدين، وتم إبعاد وعزل شباب الثورة بكل الوسائل الممكنة. فشلت الثورة فشلا ذريعا ليس فقط بسبب إجرام نظام الأسد ووقوف المجتمع الدولي معه، بل أيضا بسبب عجز الذهنية السياسية الثورية عن أن تكون ثورية بالفعل وليس فقط بالشعارات، والثورية تعني هدم كل المفاهيم القديمة والسعي لبناء أخرى تتناسب مع العصر ومجرياته، هل فعلت القيادات السياسية الثورية ذلك؟ في الحقيقة إن ما فعلته هو العودة بالسوريين الثائرين في مناطقهم إلى القروسطية، شأن كل سوريا حاليا.

هل المصير البائس للسوريين (معارضين وموالين) والابتلاء بقيادات فاشلة بكل أداءاتها وفاسدة وبعيدة كل البعد عن الوعي الوطني هو الرابط الوحيد الباقي والجامع لهم؟ ربما ينطبق هذا على السوريين الذين في داخل سوريا سواء في مناطق النظام أو المناطق الخارجة عن سيطرته أو في المخيمات، أما السوريون اللاجئون في دول العالم (كل السوريين في الخارج حاليا لاجئون)، فإن ما يجمعهم هو القلق على مصائر من تبقى من عائلاتهم في الداخل السوري، وما يجمعهم هو الخوف من أية خطوة باتجاه تغيير أوضاعهم في بلدانهم الجديدة. أما الوطن والثورة والمشتركات فكلها لم تعد أكثر من منشورات مكتوبة على وسائل التواصل في أوقات الفراغ.