اللجنة الدستورية السورية ومتاهات التفاصيل

2019.09.29 | 20:38 دمشق

61428604_2341146826210187_2396590204979773440_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعلن الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش منذ أيام تشكيل اللجنة الدستورية السورية، بعد أن تمكن مبعوثه الخاص غير بيدرسون من تجاوز العقبات التي وُضِعتْ في طريقها، وفي اليوم التالي أشار السيد بيدرسون من نيويورك إلى أنه التقى وزير خارجية النظام في سوريا وليد المعلم وأعلمه بأنه قد تم التوصل إلى "الاتفاق على تشكيل اللجنة" وإعلانها، وبعد ذلك مباشرة هاتف رئيس هيئة التفاوض الدكتور نصر الحريري ليخبره بأنه "سعيد للتوصل إلى هذا الاتفاق"، وأكمل حديثه بأن تشكيل اللجنة الدستورية "يتوافق مع القرار الأممي رقم 2254 لعام 2015"، مكرراً ما ذكره الأمين العام بأن "الاتفاق على اللجنة جاء وفقا للقرار المذكور وأن تشكيلها سيكون بداية المسار السياسي للخروج من المأساة التي يعيشها السوريون"، وسرعان ما وصف رئيس هيئة التفاوض السورية تشكيل اللجنة الدستورية بأنه "إنجاز حقيقي وانتصار للشعب السوري وجزء من القرار 2254".

والحقيقة أن هذا الكلام يجانب الصواب لأن تشكيل هذه اللجنة يخالف ما ورد في القرار المذكور نصا وحرفا، إذ إنه (القرار) أكد في الفقرة الخامسة من ديباجته على "أنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سوريا إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف لعام 2012 وذلك بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالي جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة.." وأعرب في البند الرابع عن "دعمه لعملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة، وتقيم في مدة ستة أشهر حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولا زمنيا لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تُجرى عملا بالدستور الجديد في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة..."، وهنا نجد أنه قد تم تجاوز المدد والمهل المحددة في القرار المذكور، إضافة إلى تجاوز التسلسل العملياتي الوارد بشكل مفصل، حيث كان من المفترض إنشاء هيئة حكم انتقالي بسلطات تنفيذية كاملة ومن ثم الذهاب إلى صياغة دستور جديد، وما يؤيد هذا الكلام هو ما ورد في بيان جنيف حزيران 2012 الذي ذكر هذه الخطوات بالتسلسل تحت عنوان "خطوات واضحة في العملية الانتقالية".

تلقفت روسيا سلة الدستور وحاولت الخروج من عباءة الأمم المتحدة وتشتيت الأنظار عن مباحثات جنيف

وبسبب تعنت النظام في سوريا المدعوم بالفيتو والسلاح الروسيين وعدم قبوله الانخراط الفعلي في العملية السياسية، ابتكر السيد ستيفان دي مستورا، سلف السيد غير بيدرسون، في الجولة الرابعة من مباحثات جنيف مسألة السلال الأربع (الحكم الانتقالي، الدستور، الانتخابات، الإرهاب) وعلى الرغم من أن السيد دي مستورا قد أكد في أكثر من مناسبة أنه سيبحث السلال الأربع بالتوازي، إلا أن ذلك لم يتم، وتلقفت روسيا سلة الدستور وحاولت الخروج من عباءة الأمم المتحدة وتشتيت الأنظار عن مباحثات جنيف، ونظمت مؤتمرا للحوار في مدينة سوتشي الروسية، كانت فكرة تشكيل اللجنة الدستورية من مخرجاته، التي تبنتها الأمم المتحدة بشرط أن تكون تحت مظلتها ورعايتها، بعد الكثير من الشد والجذب مع الدول الفاعلة والمؤثرة في الملف السوري.

وعلى الرغم من أن الكثير من ممثلي المعارضة السورية وخاصة هيئة التفاوض يعلنون بين الفترة والأخرى، بأن القبول بالسير في مسألة الدستور لا يعني تجاهل السلال الثلاث الباقية وبالأخص سلة هيئة الحكم الانتقالي، فإن ذلك ليس إلا من باب التصريحات الإعلامية ومحاولة يائسة للخروج من الموقف المحرج الذي وُضِعوا فيه، وبغض النظر عن مدى إمكانية السير بباقي السلال بالتوازي مع سلة الدستور من عدمه، فإنه كان من واجب هيئة التفاوض وقبل أن تقبل بتشكيل اللجنة الدستورية وتعتبره انتصارا للشعب السوري، أن تطلب من المبعوث الأممي والدول الثلاث الضامنة وبالأخص تركيا عدم المضي في هذا المسار قبل الاتفاق على تحديد مهام وصلاحيات اللجنة الدستورية، لأن النظام لا يزال مصرا على أن مهمة اللجنة هي النظر بتعديل بعض مواد الدستور السوري الحالي الذي تم وضعه عام 2012، بينما ترى المعارضة أن مهمة اللجنة تكمن في إعداد وصياغة دستور جديد، وعلى الرغم من وضوح النص في القرار 2254 بأن المقصود هو إعداد دستور جديد، فإن النظام في سوريا قادر على اللعب بالألفاظ والعبارات وإيجاد تفسيرات لا تأتلف مع المنطق وتنتافى مع روح النص وحرفيته، ما دام يرى أن المجتمع الدولي لا يأبه كثيرا بحال السوريين، وما دام الدب الروسي يشد من أزره ويعاونه في كل صغيرة وكبيرة.

وأعتقد أن النظام قادر في المرحلة المقبلة على فرض وجهة نظره بحصر مهام اللجنة بتعديل الدستور الحالي، ما دام أنه قد تم الاتفاق على أن آلية اتخاذ القرارات في اللجنة هو التصويت، ولتمرير أي مقترح لا بد من الحصول على موافقة 75% من أصوات اللجنة، وهذا يعني ضرورة وجود 113 صوتاً لصالح أي مقترح، وفي هذه الحالة ستكون فرصة النظام لتمرير مقترحاته أكبر بكثير، لأنه يضمن أن الخمسين عضوا الذين سماهم هو هم كتلة واحدة وصوت واحد ولا أحد منهم يستطيع أن يخالف وجهة نظره، ومَنْ خَبرَ النظام السوري يعرف هذه المسألة جيدا، ودون الخوض في تفاصيل تعيين ثلث المعارضة وثلث المجتمع المدني، الذين تم تعيينهم أو على الأقل تزكيتهم من قبل الدول الثلاث الضامنة (تركيا وروسيا وإيران)، وعلى فرض أن ثلثي المعارضة والمجتمع المدني سيكونون على قلب رجل واحد، فإن مجموعهم لا يشكل نسبة الـ 75% المطلوبة، ما يعني أن ممثلي النظام سيلعبون دور الثلث المعطل متى شاؤوا، وإطالة أمد عمل اللجنة وفق رغبات النظام وداعميه، وقد يدفع هذا الأمر بهيئة التفاوض إلى القبول بفكرة تعديل الدستور الحالي بدلاً من إعداد وصياغة دستور جديد، طبعاً تحت بند "الواقعية السياسية"، وبهدف "تجنيب الشعب السوري مزيداً من الويلات والكوارث"، بل ويمكن أن يطل علينا السيد نصر الحريري ويقول حينها بأن التعديل هو "انتصار للشعب السوري".

القبول بتعديل الدستور الحالي هو بمثابة القبول بل شرعنة كل القوانين الاستثنائية التي صدرت بعد إقراره ومنها قانون إحداث محكمة قضايا الإرهاب

وإذا وصل بنا الأمر إلى هذا الحال، فإننا سنكون أمام كارثة حقيقية فعلاً، لأن التعديل لا يتعلق بدستور طبيعي وُضِعَ في ظروف طبيعية، إذ إن اللجنة التي قامت بصياغة الدستور لم تكن منتخبة بل تم تعيينها من قبل رئيس الجمهورية من الأشخاص الموالين له فقط، دون أن يشارك في الإعداد والصياغة أيٌّ من القوى والشخصيات السياسية المعارضة، أي قام بإعداده فريق واحد ومن لون واحد، وتجاهل ذاك الدستور الأحداث المؤلمة التي كانت تعصف بالبلاد منذ عام 2011، وتم الاستفتاء عليه بالتوازي مع استمرار حالات القتل والتعذيب والقتل خارج القضاء والإخفاء القسري، إضافة إلى أن القبول بتعديل الدستور الحالي هو بمثابة القبول بل شرعنة كل القوانين الاستثنائية التي صدرت بعد إقراره ومنها قانون إحداث محكمة قضايا الإرهاب، وإضفاء المشروعية على كل تلك الأحكام التي صدرت عنها، بدلا من أن تتم محاسبة كل من اشترك في إصدارها، إن أبصرت العدالة الانتقالية النور في سوريا يوماً ما.

زد على ذلك فإن قبول اللجنة بمهمة تعديل الدستور الحالي معناه القبول بشرعية نظام الأسد وتعويمه، لكن هذه المرة من قبل هيئات وشخصيات معارضة وليس من قبل المجتمع الدولي والدول الداعمة له كما هو عليه الحال الآن، لأن الدستور الحالي يشترط "إقرار ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشعب الحالي على التعديل مع ضرورة اقتران ذلك بموافقة رئيس الجمهورية" (المادة 150)، لذلك يتوجب على من ارتضوا أن يكونوا ضمن هذه اللجنة أو سعوا إلى أن يكونوا كذلك، أن يحذروا الوقوع في الفخاخ التي نصبها لهم النظام، وأن يخرجوا بسرعة وبأقل الخسائر من المتاهات والتفاصيل التي قد ترهقهم وتشل عملهم.