العلاقة العضوية بين الاستبداد والإرهاب

2020.02.23 | 23:02 دمشق

bwtyn_walasd.jpg
+A
حجم الخط
-A

الإرهاب! الإرهاب ! الإرهاب!، المفردة السحرية التي يَرتكب باسمها -ما يُسمّى رؤساء دول- جرائم يندى لها جبين الإنسانية؛ لأنهم بحقيقة الأمر ليسوا أكثر من رؤساء عصابات تقتل الأطفال، وتشرد مئات آلاف الأبرياء بعد تدمير بيوتهم، "وتعفيشها"؛ ويقولون: نقاتل الاٍرهاب، وننتصر على الاٍرهاب. هذا ما حدث ويحدث في إدلب ومحيطها؛ وقبل ذلك في كل بقعة من سوريا.

وكي تكتمل بشاعة صورة المجرم، وكي تكتمل صورة ذبح الضحية معنوياً أيضا؛ تجد رؤساء العصابات هؤلاء قد رتّبوا، بكل إتقان واحتراف المجرمين، مَن يوفّر لهم هذه الذريعة. فعندما يكون السبعة مليارات بني آدم على كوكبنا يرتعبون مِن ذكر "القاعدة" كتنظيم إرهابي، يخرج علينا مخلوق اسمه "أبو محمد الجولاني" على الأرض السورية، ويقرُّ بعظمة لسانه أنه مرتبط بالقاعدة. كان ذلك في أول لقاء لهذا الجولاني؛ وكان وقتها يضع قناعاً على وجهه.

وتكررت خدمات الجولاني في كل ظهور لاحق له. وفي آخر لقاء نظّمته إحدى دوائر الاستخبارات العالمية -وبكل خبث- يقدم مرافعة عن ذلك الارتباط؛ ومفاده أن "نصرته" أو "هيئة تحرير شامه" ترتبط بالقاعدة، كي تضبط من ينتمي إليها وتمنعه من القيام بأي عمل خارج حدود سوريا. فنحن ها هنا أمام تحوّل في مسيرة هذا المخلوق وإعادة تأهيل له، كي يلعب دوراً جديداً.

تفعل طائرات بوتين والثلاثمئة صنف من الأسلحة التي تفاخر بتجربتها في سوريا أكثر مما فعلته بغروزني

• تفعل طائرات بوتين، والثلاثمئة صنف من الأسلحة التي تفاخر بتجربتها في سوريا أكثر مما فعلته بغروزني، وذريعته "الاٍرهاب". وتحديداً، إرهاب "النصرة"/ هيئة تحرير الشام/. فباسمها يدوس بوتين اتفاقات خفض التصعيد، وينسف اتفاقاً في سوتشي مع حليفه الاستراتيجي "تركيا"، التي عمل على اختطافها من الناتو وإبعادها عن أميركا وإغرائها بصواريخ تنافس الباتريوت وبمليارات التبادل الاقتصادي؛ وعندما تقول له إنه يشرد مئات آلاف المواطنين، يقول إننا نقاوم الاٍرهاب، الذي كُلِّفت تركيا بالتخلص منه، ولم تفِ بالتزاماتها. فهذا مثلاً آخر تصريح لنائب وزير الخارجية الروسي؛ وفي كل جملة نجد المفردة السحرية:

- منذ 9 يناير، هاجم الإرهابيون قاعدة في حميميم ....، وموسكو ليست مستعدة للتسامح مع وجود مرتع للإرهاب في إدلب.
- حاولنا جاهدين وقف إطلاق النار..... لكن الإرهابيين ما يزالون يخرقونه.
- روسيا تدعم قوات الحكومة السورية...... للقضاء على الإرهابيين في إدلب.
- تحركت القوات الحكومية بدعمنا، وهي تعمل.... ضد الإرهابيين.
- روسيا لن تقبل وجود إرهابيين في إدلب.
- الإرهابيون يمنعون المدنيين من مغادرة إدلب......
- قمنا باتخاذ كل التدابير لحماية المدنيين، لكن الإرهابيين لا يسمحون لهم بالعبور إلى مناطق الحكومة.
- نعمل على تجنب وقوع خسائر بين المدنيين ومواصلة القتال ضد الإرهابيين.

• يحتفل بشار الأسد "بانتصاره" على "الاٍرهاب" إياه، وحقيقة الأمر تكون اقتلاع مليون سوري من بيوتهم، ولا يكون واحد من بينهم من مجرمي الجولاني، الذي يتشدقون بالانتصار عليه. ويكون الانتصار على أشلاء أطفال سوريا وخيامهم التي مزقتها صواريخ بوتين والأسد.

• يتشرد السوريون شمالًا، والتبرير الاٍرهاب واحتضانهم له. يستخدم بوتين السوخوي ويدمر الأسواق والمشافي ويقتل الأطفال والنساء ويشرد الآلاف؛ والذريعة الاٍرهاب والجولاني. 

• يتردد الناتو وتتذبذب أميركا بمواقفهما تجاه ما يحدث؛ والسبب الاٍرهاب والجولاني.  

• يرتخي المبعوث الدولي والأمم المتحدة وأمينها العام، ويعبرون عن "قلقهم" تجاه مأساة المشردين؛ ويكون الاٍرهاب والجولاني الحجة والذريعة. 

حتى في آخر مكالمة هاتفية بين بوتين وأردوغان -والمنطقة تقف على رؤوس أصابعها- كانت نقطة ارتكاز بوتين، بعد تشريده مليون سوري واتباع سياسة الأرض المحروقة: "لا بد من القضاء على الإرهاب".

في السنوات الماضية، كتبت جملة من المقالات عن الجولاني والنصرة وتطوراتها، وعن تقديم الرجل مرافعات تخدم النظام أكثر من أي قوة؛ باختصار، كلما احتاج الروس أو النظام الذريعة، تجد الجولاني جاهزاً لتهيئتها.

في مقابلته الأخيرة حاول الجولاني أن يظهر واقعيا؛ ربما طامعا بتسويق نفسه بقالب جديد، مستندًا بطروحاته تلك إلى ادعائه "حماية" إدلب معترفاً بأخطاء لتكريس واقعيته. سعى أن يقنع المتلقي بأن طيف عمله ليس خارجيا؛ وربما بحثاً عن اعتماد دولي من خلال ضبطه لأي مقاتلين أجانب معه، وردع توجههم خارجاً. وهنا تكشّف أمر الرجل تماما، وأضحى مأزوماً للغاية بحكم تكشف الأمور في إدلب من خلال التدخل التركي.

المشكلة الآن، ليست فقط في تحولات الجولاني، بل في تحولاتنا المأزومة كي نؤقلم أنفسنا مع التحولات الحربائية للجولاني. لقد قام بمهمته القذرة على أكمل وجه؛ والآن يريد أن يتحول. فما ترانا فاعلين تجاه ذلك؟! هل نستمر أيضاً بالتراقص بين أحكام أميركا وروسيا وتصنيفاتهم لهذا بأنه إرهابي، ولآخر بأنه معتدل؛ وفي اليوم التالي نتماهى مع تصنيفات أخرى للجهات ذاتها دون أن نحسم أمورنا فكريا وعقليا؟! كان لا بد من حسم الأمور تجاه الجولاني وأمثاله منذ بداية ذلك الظهور المريب، والقيام بكل ما خدم منظومة الاستبداد، وشوّه السوريين وثورتهم. كان لا بد من كشفه ونبذه وفضح توجهه وهدف مشغليه منذ البداية. نأمل أن يكون قد حدث شيء من الصحوة في عقول البعض الذين تماهوا مع توجهات الجولاني؛ وعادوا من تلك الحقبة العفنة التي خدمت الاستبداد في عطب ثورة السوريين وتشويهها. لا يبني الأوطان ولا ينصر ثورات الشرق إلا مبدأ "الدين لله والوطن للجميع". يتغذى الاستبداد على تلك الظواهر المسمومة العفنة؛ وبدورها تعيش في ظله بعلاقة عضوية.