السويداء تنتفض.. التاريخ يعيد نفسه

2023.09.01 | 06:19 دمشق

السويداء تنتفض.. التاريخ يعيد نفسه
+A
حجم الخط
-A

مرة أخرى يعيد التاريخ نف سه ويمنحنا فرصة جديدة لإحياء الثورة، لنكون محظوظين جداً كوننا ما زلنا أحياء لنشهد تكرر تلك اللحظة التاريخية.

على الرغم من القهر والفقر والإذلال يستطيع السوريون اليوم وهم في داخل أعتى الدول الأمنية أن يخرجوا عن صمتهم، ويواجهوا القتلة رافضين الاستمرار بالانصياع لاحتلال بلادهم ونهبها.

الأصوات السورية التي خرجت اليوم تؤكد على سلمية الثورة، وتثبت بما لا يدع مجالاً للشك ألا أحد يستطيع أن يحجب الشمس بغربال مليء بالثقوب على الرغم من سنوات تشويه ممنهجة في الإعلام وفي دول العالم في نظر الرأي العام.

عن قرب قد تبدو الأشياء التي قد نختلف عليها تفوق ما قد نتفق في الرأي حوله، لكن ذلك لا يغير حقيقة أننا اجتمعنا دوماً على حب هذه البلاد وإن اختلفنا بطريقة حبنا لها، فأستحضر أغنية السيدة فيروز "وإذا نحن تفرقنا ببجمعنا حبك".

بعد سنوات من الحراك السوري الذي لم ينصفه أحد، تعود الثورة إلى النهوض من رمادها في لحظة يأس خيمت على أرواح السوريين، واعتقدوا فيها أن لا مفر من ذلك القدر السياسي البائس الذي يعيشونه.

لم يقتل الجوع أبناء بلادنا ولم تعد قضيتهم رتق ما ثقبته سنوات الاستبداد، وربما لاحظ الذين عوّلوا على صبرهم ويأسهم أن صبرهم قد بلغ حده وأنه لا يعني الاستسلام، وأن كيل الكريم إذا طفح قد يخلف وراءه طوفاناً جارفاً

السوريون اليوم في الساحات، لم يتراجعوا عن مطالبهم قيد أنملة، فلا هم يريدون إصلاحاً سياسياً واقتصادياً ولا خدمات ولا غذاء، إنهم يريدون استعادة بلادهم ممن اعتقد أنه يملكها ويتحكم بقرارها فيبيعها لمن يريد، إنهم يريدون اجتثاث السمّ من جذره، ولا يبدو أنهم باتوا خائفين من أسلحة النظام ومعتقلاته وإنما بلغ غضبهم ذروته بعد أن منحوه فرصاً تلو أخرى فاعتبر ذلك جبناً واستساغ الإذلال والإهانة.

لم يقتل الجوع أبناء بلادنا ولم تعد قضيتهم رتق ما ثقبته سنوات الاستبداد، وربما لاحظ الذين عوّلوا على صبرهم ويأسهم أن صبرهم قد بلغ حده وأنه لا يعني الاستسلام، وأن كيل الكريم إذا طفح قد يخلف وراءه طوفاناً جارفاً.

ربما لم يكن المجتمع السوري جاهزاً للثورة بعد، بسبب سنوات القمع والتغييب السياسي أو بسبب تركيبة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في سوريا، وهذا قد يشكل سبباً مهماً في المخاض الطويل لكنه لا يزيل ألم الطعنات التي تلقيناها خلال عقد ونيف.

الحقيقة ومن دون مواربة أيضاً أننا لا نخلو من الأخطاء وأن هذه فرصة للمراجعة وتحمل المسؤولية لئلا نقع فيها مجدداً، لكننا من باب الإنصاف قبل أن ندين المجتمع علينا أن نغوص في تحليل تركيبه الاجتماعي، وبيان الأسباب التي أدت إلى الوصول إلى مثل النتائج الكارثية الني نعيشها على الصعيد السوري.

لا نتائج من دون مقدمات هذا ما يثبته الوضع الاجتماعي السوري الذي بُني منذ زمن بعيد على أسس "فرق تسد"، ووُضع حجر مؤسسات الدولة بالطريقة ذاتها، ومن نافل القول إن الحياة السياسية أُديرت بالأسلوب ذاته، واعتمدت أسلوبي الترغيب والترهيب في غالب الأحيان. 

ربما عجزت الثورة عن ترميم حالة الصدع الاجتماعي وردم الفجوة السياسية التي نعاني منها، وجعلت الفروق الفكرية أكثر وضوحاً، وهذه مرحلة ضرورية لاكتشاف المشكلة كخطوة في سبيل علاجها في حال كنا شجعاناً واعترفنا بها وابتعدنا عن حالة ادعاء المثالية الدارجة، لقد كنا محملين بسوءات حكم البعث وما بُني عليها من تفرق واصطفاف، وانعكس ذلك جلياً في بعض المواقف التي اتخذناها فيما يخص تفاصيل الثورة.

لا يخفى على أحد أيضاً الاتهامات التي تلقاها أبناء الثورة ومؤيدوها بأن التنظيمات الإرهابية تمثل جوهر الثورة، يضاف إليها حرب المعلومات التي شنتها أجهزة الأمن لتشويه صورة من خرج في المظاهرات، غير أن الواقع اليوم يثبت عكس هذه الحكاية ويدين النظام الذي تعاون مع أطراف خارجية لتسييس الثورة وتخريب البلاد في مقابل مكاسب شخصية.

لقد جمعت الثورة كثيرين ممن خلعوا عنهم الخوف وخرجوا معارضين للاستبداد وما زالوا كذلك حتى اليوم، وإذا كان النظام يعتقد أن السنوات الطويلة سوف تسهم في طيّ صفحة مطالب السويين في التغيير السياسي فقد أتت النهايات بعكس ما يتوقع، وأثبتت أن الحصى الذي رُمي في المستنقع قبل عقد قد حركه بالفعل وبات من غير الممكن إعادته إلى حاله السابق.

المشكلة الحقيقية أن الاستبداد عمل على تشتيت السوريين وحرص على تفتيت وجود هوية سورية جامعة مانعة، بمساعدة نظام أمني عمل على ترسيخ الفصل بيننا، وأنه سهل وصول أشخاص إلى الإعلام ليقدموا صورة مشوهة عن السوريين في العالم.

لم تكن الثورات رفاهية في يوم من الأيام، ولا يمكن أن تظهر في مجتمع ما إلا بعد سلسلة من التحركات السياسية التي قد تتفاوت في الزمن والقوة والاستمرارية، لكنها تترابط بعضها مع البعض الأخر لتشكل حدثاً واحداً

من الطبيعي في المنعطفات المهمة في حياة الشعوب أن تنتشر أصوات متعددة توافق أو تخالف أو تتحفظ، لكن النظام وأجهزة المخابرات العالمية عملوا على تمكين صوت غوغائي محرض على الانتقام ليعتم على أصوات العقول التي قد تؤثر في المجتمع.

لم تكن الثورات رفاهية في يوم من الأيام، ولا يمكن أن تظهر في مجتمع ما إلا بعد سلسلة من التحركات السياسية التي قد تتفاوت في الزمن والقوة والاستمرارية، لكنها تترابط بعضها مع البعض الأخر لتشكل حدثاً واحداً.

ولأنه من غير الممكن إخراج الأمور من سياقها ولا يمكن تجاهل قراءة الأحداث التاريخية التي أدت إلى أي حراك سياسي، فيبدو أننا ماضون باتجاه لا يمكن لعسكرة أو تشويه أو قتل أو مؤامرات وتواطؤ أن يعيقه بعد اليوم، كما لن يتمكن كل ما سبق من منع هذه التحركات المتلاحقة من بلوغ شاطئها أو تحقيق أثر الحت والتعرية على أقل تقدير، حتى وإن استغرق ذلك سنوات وعقود.

لقد كنا محظوظين إلى درجة جعلتنا نشهد الحدث مرتين لنتأكد أن السنوات التي مضت لم تكن سوى ثمن لنضج ثوري لم نحظَ به من قبل، ولإثبات أن اليأس لم يكن في محله وإنما كنا بحاجة إلى وقت ليثبت لنا الزمن أننا مشينا في الطريق الصحيح أخيراً.