السوريون بين اللّجوء المفخّخ والعودة المستحيلة

2022.08.18 | 06:25 دمشق

السوريون بين اللّجوء المفخّخ والعودة المستحيلة
+A
حجم الخط
-A

يتفشى خطاب يعادي السوريين في لبنان بشكل واسع. يتم نسب أزمات البلد العميقة إلى وجودهم الّذي يقوم على حساب أمن اللّبنانيّين، وعيشهم، واقتصادهم وقد أضيف في الآونة الأخيرة عنوان جديد وهو طريقة العيش.

تظهر الأرقام عكس ما يذهب إليه المنافحون عن مثل هذا الخطاب، وخصوصًا لناحية استفادة لبنان اقتصاديًّا من الوجود السّوري ودخول المساعدات الّتي يقدّمها المجتمع الدّولي إليهم في بنية الفساد اللّبناني العام، ولكنّ النّزوع المعادي للسّوريّين يتغذى من أسباب أكثر خطورةً وعمقًا.

بعض هذه الأسباب يعود الى إعادة إحياء منطق تفسير الحرب والنّزاعات في لبنان بوصفها حرب الآخرين على أرضه. ينزع هذا التبسيط الخرافي عن اللّبنانيّين المسؤوليّة عن صناعة الحرب واستمرارها وما جرى فيها من أهوال وينسب إليهم نقاءًا خياليًّا أفسدته التّدخلات الخارجيّة.

في هذا التّفسير الشّائع والمستعاد تبدو الحرب الأهليّة وما تلاها كعارض لمرض خارجيّ. تالياً فإنّ الحلّ السّحريّ الجاهز للطرح والتسييل في هيئة خطاب عام، يتفاضل الجميع في مدى تعبيرهم عنه والتوافق حوله، يبقى التّخلص من الوجود الخارجيّ كضمانة للعودة الى أصل منشود تتجلى فيه الفكرة اللّبنانيّة بكامل صلابتها الّتي تعبر عنها مسرحيّات فيروز والرّحابنة.

أن يكون للبلد أصل خرافي تستند عليه قراراته فهذا يعني قبل كلّ شيء أن علاقته بالتاريخ والحاضر مأزومة على الدوام، كما أن واقعه السّياسي انبنى على الاستثمارات الخارجيّة التي لا يمكن له الحياة من دونها. المشكلة ليست في وجودها بل في طبيعتها.

الإصرار على الدّفع به إلى الواجهة، وتكراره عبر محطات التّلفزة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ لم يعد عنصرية وحسب، بل بات إيمانًا خالصًا ونوعًا من الدّين اللّبناني الجديد العام والعابر للطوائف

ظهرت منذ فترة تفسيرات جديدة تبني على ما سبق، ولكنّها تعجز عن تصميم خطاب يوازي الخطاب القديم، لذا يلجأ أصحابها إلى لغة الأرقام في محاولة لنزع السّمات البشريّة عن السّوريّين وتصويرهم على أنهم ماكينات استهلاك للخبز، والماء، الهواء والكهرباء وحسب.

لا يصمد خطاب الأرقام والمنطق الإحصائي أمام أيّ تمحيص، لذا فإن الفكرة الّتي تستدعي سخريّةّ مرّةً أنّ الإصرار على الدّفع به إلى الواجهة، وتكراره عبر محطات التّلفزة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ لم يعد عنصرية وحسب، بل بات إيمانًا خالصًا ونوعًا من الدّين اللّبناني الجديد العام والعابر للطوائف، ولعل أخطر ما فيه أنه يحاول تكريس الخرافة بوصفها موضوعيّةَ ونزوعًا علميًّا وواقعيًّا.

على ضفاف كل هذا المنطق تبرز دعوات وزير المهجرين اللّبناني عصام شرف الدين لإعادة 15000 لاجئ سوري إلى سوريا شهريا في إطار ما يسمى العودة الآمنة والطوعيّة.

عليه تصبح تلك العودة إلى الموت المحتوم شأنا حقوقيّا وإداريّا وليست عملية تسليم مقصود للضحايا إلى الجلاد. البرودة الّتي يتم فيها طرح مثل المشروع تعلن أن المجزرة العارمة والمفتوحة في طريقها للتحوّل إلى سياق تنفيذي مشرعن، بل يمكن القول إنّها باتت ترتدي ثوب التّسويات والسّلام المنتظر.

ولكن ربما يكون من الواجب التّفكير في خصوصيّة السّوريّين ولماذا لم ينجحوا في التحول إلى لاجئين فعليّين ليس في لبنان وحسب بل في كل مكان فروا إليه؟

أميل في هذا الصدد إلى تبني فكرة مفادها أنّ المشكلة الكبرى مع السوريين والّتي تعيق تحويلهم إلى لاجئين فعليين من ناحية ولكنّها تمنعهم من الهزيمة المطلقة في الوقت نفسه، أن أحدا لم ينجح في تحويلهم إلى صدى لعنوان محدد طائفيّ أو سياسيّ.

السّوريون في لبنان لم يصبحوا سنّة أو رافعةً لتيار سياسيّ أو مجرد ضحايا بل بقوا على الدوام يرددون أصداء هوية سورية الملامح، ويحرصون على منحها قدراً من التّماسك والصّلابة على الرّغم من كلّ ما أصابها من تمزّقات وما كلفتهم من ويلات.

وعلى هذا كان من الصعب تصنيفهم وتوظيفهم، فكان ما يجري عليهم الآن من عنصرية مقيتة تردّهم إلى عموميّة سورية تشكّل عنوانًا لمقاومة يمكن أن تبني جدار دفاع يحميهم من التّبدد.

اللافت أنّ تلك الهوية السورية كما تظهر عند السّوريّين في لبنان تجمع بين مؤيدي الأسد ومعارضيه. على سبيل المثال تنتشر في بعض المناطق اللبنانيّة وبشكل خاص في شارع الحمراء في بيروت محال تجاريّة يستثمرها سوريون يجاهرون بولائهم للأسد.

مثل هذا الولاء بما يحمله من انحياز للجريمة والوحشيّة لم ينتج جملة سلوكات يوميّة تتمايز عن السّوريين المعادين للأسد، بل بدا أقرب إلى حيلة فرار ونجاة وأقرب إلى شراء فيزا تتيح العبور إلى جنة الفساد اللّبناني.

لا يتكرر الأمر نفسه عند اللّبنانيّين المؤيدين للأسد أو لإيران، حيث تتضاءل نسبة المشترك بينهم وبين عموم اللّبنانيين إلى حد التلاشي التّام. الهويّة السوريّة تظهر في هذا المقام كعنصر غالب وكأصل لا راد لتأثيره ولا منافس لحضوره في تشكيل الذات والشّخصية والسّلوك.

مشكلة الأسد مع السوريين عامة وتطول المؤيدين، إذ إنه لا يريد سوريين مؤيدين بل يريد أسديّين، وبذلك فإن أي علامة تدل على الهويّة السّورية تصدر من أي سوري تعتبر تهديدًا له. إنّه، وعلى غرار الولي الفقيه الإيراني، لا يريد خلق كائنات تدين بالولاء له وحسب، بل كائنات لا صفات ممكنةً لها خارج متطلبات هذ الولاء وشروطه.

مشكلة السّوريّين أنهم ظلوا سوريين على الرّغم من كلّ ما جرى ويجري لهم، وحتى تعبيرهم عن فداحة الألم لا يزال محافظًا على معنى سوري خاص يحرص أن لا يتحول الألم إلى يأس تام

الخطاب اللّبناني العام ينظر إلى كل السّوريّين بالعين نفسها، ولعل أبرز دليل على ذلك أن شرعنة دخول أصحاب الأموال الأسديّين إلى لبنان تفترض منحهم الجنسيّة  لسبب لا يعود فقط إلى تمكينهم من الاستفادة من منظومة الفساد اللّبنانيّ للقيام بتبييض الأموال وما إلى ذلك، ولكن من أجل تجنيبهم مواجهة عنصريّة لبنانيّة عامة.

مشكلة السّوريّين أنهم ظلوا سوريين على الرّغم من كلّ ما جرى ويجري لهم، وحتى تعبيرهم عن فداحة الألم لا يزال محافظًا على معنى سوري خاص يحرص أن لا يتحول الألم إلى يأس تام.

من هنا نفهم تلك المساعي العارمة الّتي تبذل من أجل إبادتهم، لأنّ تجربة العنف المديد وغير المسبوق منذ العام 2011 ضدهم لم تنجح في هزيمتهم بشكل حاسم. ما زلنا نرى سوريين يحتجّون، ويتظاهرون، ويبادرون، ويرسمون، ويغنّون، لذا كانت الخلاصة التي خرج بها النّظام السوري وظله اللّبنانيّ تقضي بالعمل على خطين متوازيين.

أولهما تفخيخ وجودهم وعيشهم في لبنان وتعريضهم لما لا يحتمل تمهيدًا لتفعيل الخط الثاني وهو تسليمهم التّدريجي في سياق شرعنة عربيّة وإقليميّة ودوليّة إلى نظام محو أسدي، مُنح منطقه الإباديّ صفة الحلّ الوحيد الّذي يضمن هزيمة السّوريّين الّذين لا يكفون عن النّجاة مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة يصنعون فنًّا وتاريخًا وحيواتٍ مديدةً لهم وللعالم.