الساحل السوري: هدأت الضيعة الضايعة إلى حين

2023.09.04 | 06:18 دمشق

أحمد إسماعيل وأيمن فارس وحسين حيدر
+A
حجم الخط
-A

كان وصف «الغليان» موحداً على ألسنة كل من تتحدث إليهم في الساحل السوري، من دون اتفاق، قبل أسابيع قليلة، لكنه لم يعد صحيحاً اليوم.

ليس من الضروري استعراض تلك المدة من الماضي القريب، لكن المهم رصد ما أدى إلى إخماد جذوتها ولو إلى حين. لقد لعب «الحل» الأمني دوراً مركزياً، لازماً وغير كافٍ كما يقال، عندما احتجزت المخابرات أبرز من رفعوا أصواتهم بسقف غير مسبوق عبر الفيسبوك، كأحمد إسماعيل وأيمن فارس وحسين حيدر. كما تواردت أنباء متفرقة عن اعتقالات طالت شباناً وشابات في البيئة العلوية، ربما كانوا على صلة بحركة 10 آب التي حاولت قدح شرارة التمرد. وأخيراً قالت أخبار إن «الأجهزة المختصة» قبضت على عدد محدود من العسكريين يشتبه بانتمائهم إلى حركة «الضباط العلويين الأحرار» التي أعلنت عن نفسها في الشهر الفائت.

كل هذا مهم و«ضروري» في حسابات النظام، وهو يشبه استهداف رؤساء التنسيقيات والمصورين في 2011، لكن الأهم هو يقظة شارع طائفي موال لإعادة ضبط مواطنيهم على المعايير المطلوبة، بعد أن أدارت رؤوسهم تلك الأصوات الجريئة الغاضبة التي تعالت نتيجة الأزمة المعيشية الخانقة.

قال هؤلاء الموالون الثابتون إن الكل في مركب واحد، وإن على إخوانهم أن يعوا الخطورة الوجودية للموقف وإلا تولوا هم بأنفسهم «الأخذ على أيديهم» لئلا يثقبوه

ولأنه لا بد لصاحب الرأي من حجة يعتقد بسلامتها، ويخال أنها مقنعة لمحاوريه؛ فقد ركز دفاع الموالين عن النظام على أن الجماعة، بما أنه نقاش داخلي، في مواجهة نوعين من استحقاقات الوجود؛ يتعلق الأول بالجوع والبؤس وهو معروف، والثاني ما يمكن أن تسفر عنه الاحتجاجات في شارع الحاضنة من «فوضى» غير مأمونة العواقب سيستغلها الأعداء في الداخل والخارج لتقويض النظام أخيراً بعد كل الأثمان التي دُفعت لأجل بقائه، وتكلفت قرى الساحل وبلداته فاتورتها الأكبر من الدم والفقر والصبر. قال هؤلاء الموالون الثابتون إن الكل في مركب واحد، وإن على إخوانهم أن يعوا الخطورة الوجودية للموقف وإلا تولوا هم بأنفسهم «الأخذ على أيديهم» لئلا يثقبوه، سواء بطرق «الدولة» والأجهزة أو بالوسائل الأهلية التي تهدد بمواجهات شارع ضد شارع. ومن المعروف أن الموالين الأقرب إلى النظام أقوى وأشد تسليحاً من معارضين لجأ أحدهم إلى نظم الشعر باللهجة المحكية لانتقاد بشار الأسد وزوجته.

على الجانب الآخر من مشهد هذه الأيام تحضر السويداء. وسنقتصر هنا على استعراض الرأي الرائج عنها في مخيال الساحل عموماً. والذي يقوم، كما كل نظرة شائعة، على مزيج من الحقائق والأوهام.

تعتقد أكثرية من العلويين، خطأً، أن السويداء كانت تحظى بمعاملة تفضيلية في الخدمات، كالكهرباء والمياه والغذاء والمحروقات، حرصاً من النظام على إبقائها هادئة في الحرب الدائرة. ويرون، عن حق في هذه المرّة، أنها نأت بنفسها عن زج أبنائها في الصراع كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، سائرة في طريق عملي من اللامركزية التي لا تراها البيئة الموالية إلا نزوعاً انفصالياً وتقسيمياً، رغم أن السويداء نفت ذلك مراراً.

وبناء على ذلك ينظر الساحل إلى هذه القطعة من البلاد كمحافظة مدللة لكنها «نمرودة». يسعى النظام إلى استرضائها بكل الوسائل وكأنها زوجة جميلة شابة، ولو على حساب قرينته العتيقة الكهلة، ابنة عمه، أم الأولاد (الشهداء)، لأن الأخيرة «بنت أصل» وفي «الجيبة» مهما عانت من حرمان.

ولذلك بدا حنق الموالين من تمرد السويداء الأخير مضاعفاً. فهي، من جهة، تكسر سردية العصابات الإرهابية المسلحة والتشدد الديني والعمالة لدول الجوار والخليج والغرب، ومن جهة أخرى تثبت أن «الدلال» طريق من دون نهاية، وأنه لا يحنّ على العود مثل قشره رغم الإهمال والظلم.

والحق أن البيئة الطائفية الموالية تشعر الآن، أكثر من أي وقت مضى، أنها تدافع عن وجودها لا عن بشار الأسد، سواء أكان حبيباً مراوغاً أم ابناً عاقاً أو مجرد أخرق بعد أن أصيبت صورته بشروخ علنية غير قابلة للترميم. ومن هذا الموقع تعالت الدعوات إلى الصبر وتسيدت المشهد من جديد.

لكن الأسبوع الماضي حمل أمرين أشارا إلى أن الصبر المطلوب مفتوح. ففي مساء الإثنين الفائت ألقى أمين عام «حزب الله» اللبناني، حسن نصر الله، كلمة تطرق خلالها إلى الاحتجاجات السورية الحالية، وتبنى فيها الموقف الخشبي للنظام، داعياً سكان مناطق سيطرة الأسد إلى التعاون مع «الدولة» والقبول بالحلول الجزئية التي تسمح بها إمكاناتها. ناسياً، أو متجاهلاً، أن هؤلاء ليسوا جمهوره اللصيق المرتبط بمشروع «المقاومة» بأواصر الولاء العقدي ووحدة الهدف والمصير، بل شعب عادي ينشد الحياة والخبز والتدفئة.

لم يكن المتذمرون العلويون المعتقلون قادة حراك منظمين وراسخين ليؤثر غيابهم في إخماده. لقد كانوا الذرات التي طفت أولاً من غليان مجتمعي لن يهدأ من دون معالجة أسبابه

ومن الطبيعي أن نصر الله يعبّر عن موقف إيران وقدرتها على المساعدة أو رغبتها في ذلك. وهو ما بدا في زيارة وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، لدمشق، والمؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره. إذ خلا من أي إشارة إلى الوضع المستجد في سوريا، وكرر برتابة استمرار دعم طهران لنظام الأسد وعلاقاتهما الإيجابية.

والآن ماذا بعد؟

لم يكن المتذمرون العلويون المعتقلون قادة حراك منظمين وراسخين ليؤثر غيابهم في إخماده. لقد كانوا الذرات التي طفت أولاً من غليان مجتمعي لن يهدأ من دون معالجة أسبابه. وهذا أمر خارج عن استطاعة النظام، وربما عن قدرة حلفائه. مما يعني أن الهدوء الحالي مؤقت ومرهون بالأزمة المعيشية المرشحة للتفاقم. وعندها سيخرج الجياع على حكمهم شاهرين سيوفهم، كما تقول عبارة سائدة بينهم منسوبة إلى الصحابي أبي ذر الغفاري.

ولن تبقى تلك الضيعة الضايعة ناجياً وحيداً بعيداً عن حالة الاحتجاج العامة.