icon
التغطية الحية

الرواية والدراسات البينية في مواجهة مناهج النقد

2022.10.31 | 09:28 دمشق

نقد
+A
حجم الخط
-A

تنقل لنا الأعمال الروائية تفاصيل الحياة المتشابكة مع العلوم والفنون المختلفة، ولذلك نجد أن تحليل ودراسة بعض الروايات يحتاج إلى الإلمام بالعلوم ذات العلاقة في بناء عالمها الروائي. وهذا لا يعني أن دراسات النقد التقليدية غير مهمة؛ لكنها تبقى لوحدها قاصرة عن فهم تشعب ووعورة الطرق التي يسلكها الروائي المبدع، والذي يلج في كل عمل روائي جديد أماكن جديدة.

فغالباً ما تتداخل السياسة والاجتماع وعلم النفس وقوانين الفيزياء والهندسة في تركيب عالم روائي لعمل خلاق، وهنا تبرز أهمية الدراسات البينية في تفكيك خوارزميات مثل هذه الأعمال للوصول إلى المعاني المخزنة في أعماقها.

لماذا ظهرت الدراسات البينية؟

تفرض المؤسسات التعليمية الرسمية نمطاً وحيداً من التعليم وهو التعليم الشاقولي، بحيث يتخصص الطالب الجامعي بمجال معين ويتابع تخصصه بالماجستير والدكتوراه بذات التخصص، وحتى أبحاث الترقية لأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات؛ غالباً ما تكون بذات التخصص. يفرض هذا النمط الدراسي انغلاق الباحث ضمن تخصصه الأكاديمي وبذلك يغيب الانفتاح على الاختصاصات الأخرى.

هذه الهرمية التعليمية ناتجة عن سلطة كرستها الجامعات ووزارات التعليم العالي، وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي هناك من يمارس هذه السلطة، لذلك نجد أن الألقاب والمسميات الأكاديمية تأخذ مكاناً بارزاً في بعض الصفحات للإيحاء بأن ما يكتب بهذه الصفحة أو تلك ليس مجرد آراء وإنما هو رأي مختص له مصداقية أكاديمية. ولعل نسبه بعض الأقوال إلى علماء يأتي من هذا الباب؛ وهو إكساب القول قيمة معرفية نتيجة إلصاق اسم عالم به.

وكمثال أيضاً، نُسِبت الأحاديث المكذوبة إلى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام حتى تكتسب المصداقية والثقل الديني، وبعضها آراء فقهاء قد تكون صحيحة في زمانها ولكن نسبتها إلى الرسول يأتي من باب تثقيل قيمتها.

فسلطة المختص تحاول احتكار الحقيقة من خلال زاوية نظر تخصص واحد، وهذا ما يساهم بتيسط الظواهر، ولكن الواقع معقد والظواهر معقدة، وهنا تأتي الدراسات البينية لتعالج المشاكل الناتجة عن سلطة المختص وإشكاليات التخصص.

إشكالية تبسيط وتعقيد دراسة الظواهر

بعد أن تخلص العقل الأوروبي من القيود التي فرضتها عليه الكنيسة؛ تكرس التفكير العقلاني ونشأت مناهج جديدة كرست فصل العلوم وإعلاء قيمة التخصص، حيث برز "جوهر الفكر الحداثي من خلال فكرة التبسيط التي تحوّلت إلى منظومة شاملة، وعلى هذا المنوال تطبع العقل الأوربي الحديث بطبائع البساطة والفصل والوضوح لمدة ثلاثة قرون (17- 18- 19)، لتتأسّس ما يعرف بالأبستمولوجيا التبسيطية"[1].

تأتي الدراسات البينية لتسد الفراغ الناتج عن قلة الدراسات النقدية النافعة، وهي بمثابة حلول تعويضية عن دراسات نقدية تثمن القيمة الفنية للأعمال الروائية

بالمقابل ونتيجة للأزمات المعرفية الناتجة عن الأبستمولوجيا التبسيطية ظهرت المنظومة التعقيدية التي نظَّر لها الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران. وما بين التبسيط المخل والتعقيد المبهم، تأتي الدراسات البينية لتساهم في تقديم حلول للمشاكل باستخدام أكثر من تخصص بطرق إبداعية موسوعية.

موسوعية الأقدمين والموسوعية الجديدة

تعرف البينية بحسب ميشال نيساني بأنها: "عملية تفاعل وتبادل للمعارف بين تخصصات مختلفة، وهو تبادل قد يفضي إلى أن تتكامل التخصصات المتداخلة، فتكون تخصصًا جديدًا، والبينية هي تضايف يحدث بين مكونين أو أكثر، يكون كل مكون منها منتميًا إلى علم من العلوم، أو تخصص من التخصصات"[2].

وعلى الرغم من المشاكل التي بدأت بالظهور لظاهرة التبسيط والناتجة أصلاً من تناول بعض المواضيع المعقدة والمرتبطة بعلوم كثيرة من خلال اختصاص واحد؛ إلا أن التخصص بقي يحظى بالاهتمام والحضور في أغلب الأبحاث والدراسات حتى منتصف القرن العشرين، ولكن مع بدايات ثورة المعلومات وما نتج عنها من سرعة التواصل ظهرت أفكار جديدة لعل الدراسات البينية من أبرزها، وهي دراسات تعيد العلوم إلى الموسوعية التي كانت ميزة العلماء الأوائل، حيث كان العالم يجمع بين الطب والفلسفة والرياضيات... وغيرها من العلوم.

لذلك، ونتيجة المشاكل المستجدة من التعصب للتخصص وللإحاطة بالظاهرة من كل جوانبها ظهرت الدراسات البينية التي تستفيد من التخصصات لتكوين رؤية موسوعية للظاهرة المدروسة. ولعل العصر الحديث مليء بعلماء تمتعوا بالموسوعية البينية إلى جانب تخصصاتهم الدقيقة مثل المفكر المصري عبد الوهاب المسيري والمؤرخ والناقد الأميركي نعوم تشومسكي.

الدراسات البينية والأعمال الروائية الخلاقة

تأتي الدراسات البينية لتسد الفراغ الناتج عن قلة الدراسات النقدية النافعة، وهي بمثابة حلول تعويضية عن دراسات نقدية تثمن القيمة الفنية للأعمال الروائية؛ لكن بذات الوقت هناك ندرة بالأعمال الروائية التي تحقق شرط الدراسات البينية بتشعب موضوعاتها وأشكالها الفنية بحيث تستوجب تظافر علوم مختلفة لدراستها.

يخلص الدكتور محمد سعدون في نهاية دراسته المعنونة "انفتاح النقد الروائي على الدراسات البينية"، إلى أن "النقد بحاجة إلى الانفتاح على الدراسات البينية بهدف استيعاب الأعمال الروائية التي تكتنز بالمعارف المختلفة". ولكنه يشدد بالوقت نفسه على ضرورة "تسلح الناقد بالمادة المعرفية الواسعة في مختلف أشكال المعرفة ليُلِم بشكل واسع بمضامين الأعمال الروائية المستحدثة والقدرة على تحديد التقاطعات بين المعارف في العمل الروائي"[3].

مثل هذه الدراسات النقدية، فيما لو وجدت، فإنها ستساهم برفع سوية الأعمال الأدبية من خلال تحفيز المبدعين على التنافس لإنتاج أعمال خلاقة يمكن دراستها من جوانب مختلفة، وستكون المحصلة الارتقاء بمستوى الفنون والآداب.

تكامل التخصص مع النظرة الشمولية

يقول الباحث الألماني أرنست روبرت كيرتيوس: "التخصص دون رؤية شمولية أعمى، والرؤية الشمولية دون تخصص جوفاء"[4]. من هذه المقولة الجامعة تتجلى أهمية الدراسات البينية دون إهمال التخصص؛ فالعلاقة بين التخصص والدراسات البينية علاقة تكاملية وليست تنافسية، فالرواية الحقيقية تحتوي على كنوز مدفونة بين طيات أحداثها، قد لا تستطيع الدراسات النقدية التقليدية التي تدرس تطور الشخصيات والحبكة والراوي والزمان والمكان من الكشف عنها، تحتاج إلى الإلمام بعلم النفس والتاريخ والفيزياء والجغرافية وغيرها من العلوم لتكشف المعاني التي تحملها.

وكما أسلفنا، فالروايات التي تحتاج إلى تظافر بعض تلك العلوم قد تكون قليلة، منها على سبيل المثال روايات أمبرتو إيكو، فأثناء تحضيره لرواية "جزيرة اليوم السابق" خصص سنتين أو ثلاث سنوات في دراسة الرسوم ونماذج البواخر التي كانت تستعمل في الفترة المتناوَلة في الرواية من أجل معرفة أبعاد حجرة القبطان، وكيف يمكن أن يتحرك داخلها شخص ما"[5]. وعندما حضر لرواية "اسم الوردة" رسم مئات المتاهات وتصاميم لأديرة، بحيث كان يعرف كم من الوقت تحتاجه شخصيتان كي تتنقلا من مكان إلى آخر، وهما تتبادلان الحديث"[6].

بمثل هذه الأعمال يجب أن تتضافر الدراسات النقدية التقليدية مع الدراسات البينية لكشف أغوارها الوعرة، وبمثل هذه الأعمال يرتقي الوعي الأدبي ويسمو الحس الإنساني وتزدهر العلوم والفنون.


[1] من نقد براديغم التبسيط إلى بناء براديغم التعقيد عند إدغار موران، منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية.
[2] التفكير البيني، أسسه النظرية، وأثره في دراسة اللغة العربية وآدابها، صالح بن الهادي رمضان، صفحة 15.
[3] انفتاح النقد الروائي على الدراسات البينية، محمد سعدون، صفحة 337.
[4] الدراسات البينية وتحديات الابتكار، سعد بن عبد الرحمن البازعي، صفحة 221 في مجلة جامعة الملك سعود، م 25، الآداب (2)، الرياض (2013م / 1434 هـ)، وفي الصفحة الأولى من الدراسة.
[6] اعترافات روائي ناشئ، أمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنگراد، صفحة 28.