الربيع العربي وفرع المخابرات.. في الردّ على هاشم صالح

2023.07.05 | 07:06 دمشق

الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ
+A
حجم الخط
-A

يقول المفكر السوري المقيم في باريس هاشم صالح: "لن تشمّوا رائحة الديمقراطية ما لم تعتذروا عن آلاف النصوص والفتاوى الإرهابية". ويشعر القارئ لكتب صالح، وخصوصاً كتابه (الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ) أنه دخل قسم التحقيق في فرع المخابرات وأنه متّهم بأنه إرهابي وتكفيري حتى لو لم يقرأ سطراً من القرآن في حياته ولا يعرف كيف هو الطريق إلى المسجد.
لا يعوّل هاشم صالح على الربيع العربي من أجل إحداث التغيير فهو يرى فيه مجرّد "انفجار طائفيّ". وهو يعتقد بالمقابل أن الربيع المطلوب هو تنوير ديني يشمل العالم العربي والإسلامي يمكن أن تتهيأ من خلاله الأرضية لحدوث التغيير السياسي الذي نشدته ثورات الربيع العربي.
ويرى صالح أن الثورات تكون قطيعة مع الماضي، لا عودة إليه ويلاحظ أن الربيع العربي لم يحقق هذه القطيعة، بل عاد بنا إلى الماضي. لكنه لا يلبث أن يطمئننا أن دخول العرب في "المرحلة الأصولية السلفية الإخوانية" بسبب الربيع العربي لا يعني انتصار الأصولية، بل بداية انحسارها. وهذا ما يدعوه هيغل -الذي يطبّق صالح مذهبه علينا- بمصطلح شهير هو: "مكر العقل أو مكر التاريخ".

هناك برأيي قسوة غير مبرّرة من طرف هاشم صالح تجاه الشعوب العربية. كما أني أجد أن قدميه الفكريتين غائصتان في وحل الماضي وتمنعانه من النظر في الحاضر بطريقةٍ متوازنة

ويضيف صالح معزّياً لنا ولنفسه أن التاريخ المحتقن يحتاج لكي ينفجر بكل "قيحه وصديده الطائفي حتى يشبع انفجاراً". بعدئذٍ يمكن للتاريخ أن يتنفس الصعداء. هذه برأيه أول خطوة على طريق الخلاص. فالديمقراطية لن تتحقّق "من دون حلول الفلسفة الإنسانية الحديثة محل اللاهوت الطائفي القديم كمرجعية معرفية عليا للشعب".
هناك برأيي قسوة غير مبرّرة من طرف هاشم صالح تجاه الشعوب العربية. كما أني أجد أن قدميه الفكريتين غائصتان في وحل الماضي وتمنعانه من النظر في الحاضر بطريقةٍ متوازنة. وإني لأجد التباسات ومشكلات كبرى تعتور فهمه وتحليله لظاهرة الربيع العربي.
يخفق الدكتور صالح في قراءة الأحداث على حقيقتها كما جرت على الأرض. إن الربيع العربي في عمقه هو ثورة جيل شاب صغير مثقف، بعيد عن الشبهة الطائفية، ممتلئ بالطاقة والرغبة بالحياة، ومنفتح على العالم، ضد أنظمة إرهابية تهيمن على الوطن العربي. إنه غضبة من أجل الحياة وضد القمع والمخابرات والسجون والإرهاب. إنه حركة تستلهم حياة باقي الشعوب الحرة في العالم التي صار التواصل معها وسماع أخبارها ممكناً عبر السوشيال ميديا. هو باختصار حركة دفاعية لاسترداد الكرامة الإنسانية والحقّ بالحياة من مافيات تمتلك جيوشاً وأجهزة مخابرات، وهو ليس متصلاً بمشكلةٍ أخرى نتفق مع الدكتور صالح عليها وهي الحاجة للتجديد الديني، ولكنها حاجة لا تتصل كثيراً بالكفاح ضد الأنظمة كما يتخيل الدكتور صالح رغم الإغراء الفكري الكبير للربط بينهما.
ويضع الدكتور صالح نفسه في مطبّ خطير عندما يستخدم المجاز اللغوي لوصف الأحداث الطائفية في الربيع العربي فيشبّه تلك الأحداث بمنزلة "فتح الجروح لخروج القيح والصديد" معتقداً أنه سدّد الإصابة، وشخّص المرض حسب المنهج الهيغلي في قراءة التاريخ. لكن مجاز "فتح الجروح لإخراج الصديد" هو التعبير الذي استخدمه مؤسس البروتستانتية مارتن لوثر في القرن ١٦ لتبرير ترجمة القرآن إلى اللغات الأوروبية. وبذلك يكون الدكتور صالح قد ارتكز على رؤية استشراقية أساساً للإسلام على أنه ديانة مزيّفة ومتطرفة ومجرد جروح وقيوح!
ثم إنه بالحديث عن الثورة السورية تحديداً فنحن لا نراها كما يراها مفكرنا المحترم بل نعتبر أنها كانت بمنزلة ربيع علماني في وجه نظام طائفي لا يتسع المقام هنا لنبش ماضيه، لكن ها هي كتب التاريخ وسجلات فرنسا التي يقيم بها صالح متاحة للجميع للاطلاع عليها. ونحن لا نخشى من الاعتراف أن علمانية الثورة السورية كانت قد تشققت بالفعل بعد احتدام الأحداث لأسباب كثيرة يقع نظام الأسد في القلب منها. لكن مشكلة كبيرة أن الدكتور صالح لا يرى النظام السوري طائفياً وإنه لمن الحيف والتحيّز ألا يرى في الثورة السورية فرصة للخروج من حضيض الطائفية إلى يفاع المواطنة.

ليسمح لنا الدكتور هاشم صالح أن نوضح له أن معركتنا الحقيقية في الربيع العربي هي ليست مع التراث، بل هي معركة من أجل الحداثة والديمقراطية والمساواة الإنسانية والحق في مزاولة السياسة

غير أن هناك مفكّراً سورياً آخر يقيمُ في باريس أيضاً يعارض هاشم صالح تماماً ويذهب إلى القول إن أصل تخلفنا اليوم "قائم في الوجود، أي في الواقع المادي، وليس في الماهية -العربية الإسلامية- وفي الحاضر لا في الماضي" وهو حاصل صدامنا مع الغرب الغازي وليس نابعا لا من تراثنا، ولا من ديننا، ولا من حضارتنا، وأن اعتقاد الدكتور صالح وأمثاله بوجود "جوهر فكري أو روحي صلب (عند الناس).. يحول دون استيعابهم للجديد الطارئ، هو اعتقاد خرافي لا علاقة له بأي معرفة علمية".
وهكذا ليسمح لنا الدكتور هاشم صالح أن نوضح له أن معركتنا الحقيقية في الربيع العربي هي ليست مع التراث، بل هي معركة من أجل الحداثة والديمقراطية والمساواة الإنسانية والحق في مزاولة السياسة. إنها معركة من أجل بلوغ الحداثة بوجهها التقدمي الذي استأثر به الغرب فلم يترك لنا من ريحها إلا أنظمة طائفية كنظام الأسد الذي ما إن قمنا بانتفاضةٍ ضده، حتى هبّت شركاتٌ أوروبية لإمداده بالأسلحة الكيميائية ومساعدته على تنفيذ تطهيرٍ عرقيّ ضدنا وطردنا من بيوتنا. ووصل بغي الشركات الغربية – ومن يقف وراءها - أنها دفعت رواتب شهرية لتنظيم داعش كي يعين النظام على اقتلاعنا من ديارنا. والتقارير في الجرائد الفرنسية عن فضائح كهذه أشهر من أن نذكرها والدكتور صالح طليقٌ جداً بالفرنسية فليرجع إليها وليكفّ عن محاكمتنا بهذه الطريقة المُرعبة، فنحن لا نشعر عندما نقرأ كتبه إلا وأننا قيد الاعتقال داخل فرعٍ من فروع المخابرات.