سوريون وأتراك في أوروبا

2024.02.20 | 07:36 دمشق

سوريون وأتراك في أوروبا
+A
حجم الخط
-A

عندما خرجنا من تركيا ووصلنا إلى أوروبا لاجئين وجدنا الأتراك أمامنا في كل مكان تقريباً. فلا تكاد تخلو مدينة أوروبية - مهما كانت صغيرة - من مطعم شاورما تركي، ومتجر تركي، وفي كثيرٍ من الأحيان مقهى أو مركز ثقافي.

وهكذا لم نقصّر في التسليم على الأتراك وتبادل الأحاديث معهم أينما وجدناهم. فبالإضافة لإتقاننا للغتهم، فقد امتثلنا لقول شاعرنا العظيم امرئ القيس: "وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ!"

يوماً ما في مدينة فيين وسط فرنسا سألت مسنّاً تركياً: "أليست تركيا جنة الأرض؟ ما الذي أتى بكم إلى هذه البلاد الباردة؟" فقال لي الرجل: "فَكرلك،" أي الفقر، وفهمت أن تركيا أيام شبابه لم تكن مزدهرة كتركيا التي وجدناها عندما أتينا إليها قبل عقدٍ تقريباً.

وهكذا لم يحصل كما توقعنا. فلم نهجر اللغة التركية، بل استمررنا بالتحدث بها. كما أننا لم نقع تحت سحر أوروبا المزعوم لدرجة أن ننسى أيامنا الجميلة على ضفتي البوسفور وفي ربوع الأناضول الفسيحة. فإسطنبول بكل عبقها الشرقي حاضرة مثلاً في علبة قهوة "MEHMET EFENDI" التي تحمل إلينا نسمات مرمرة وجسر غالاتا وروائح أمينونو إلى قلب أوروبا، ونعثر عليها بسهولة في أي متجر تركي هنا. كثيرةٌ هي المنتجات التركية التي تصل إلى القارة العجوز بنفس الطريقة، وتترك آثاراً مشابهة علينا.

عن طريق المال الأميركي والسواعد العربية والتركية عادت بلدان أوروبا للحياة من جديد وانتشرت المطاعم والمقاهي العربية والتركية والأميركية في كل مكان

تدفّق الأتراك إلى البلدان الأوروبية عقب الحرب العالمية الثانية، ووصل معهم المغاربة والجزائريون والتوانسة عندما لم تُبقِ الحرب رجالاً في أوروبا من أجل إزالة الأنقاض وإعادة العمران. يومذاك وضعت الولايات المتحدة خطة مارشال لإعادة إنعاش أوروبا وقدمت التقنيات والأموال بسخاء لمساعدة الأخ العجوز الخرِف الذي كاد أن يفنى بعناده. وهكذا وعن طريق المال الأميركي والسواعد العربية والتركية عادت بلدان أوروبا للحياة من جديد وانتشرت المطاعم والمقاهي العربية والتركية والأميركية في كل مكان وصارت تشكل مُلحقاً مضافاً إلى الهوية الثقافية لمعظم المدن الأوروبية. فكما Burger King أو KFC فإن الكباب (الشاورما) والفلافل والكسكس هي من الوجبات الأساسية اليوم في طعام الأوروبيين، ولولاها لما وجد السائحون في المدن الأوروبية ما يأكلون لو عضّهم الجوع في غفلةٍ من البرد القارس.

وبالعودة للحديث عن جيراننا الأتراك هنا في أوروبا فإن أحوالهم كما بدا لنا لاحقاً ليست مثالية تماماً، ولا مشجّعة بالنسبة إلينا. فرغم انقضاء ثلاثة أو أربعة أجيال على تاريخ وصولهم أول مرة، فإن معظمهم ما يزالون عمّالاً فقراء بدخولٍ ضعيفة. وحتى مع نجاح بعض منهم في إقامة مشاريع تجارية كبرى، وخصوصاً في ألمانيا وهولندا، إلا أنهم بقوا يفتقدون للتمثيل السياسي والحضور المجتمعي اللذين يعكسان تاريخهم الطويل هنا، ووزنهم الاقتصادي، وأعدادهم الغفيرة. فتعليم اللغة التركية ممنوع مثلاً في المدراس الفرنسية. ومن شبه النادر أن نجد مسؤولاً محلياً من أصولٍ تركية، وخصوصاً إذا ما كان من الموالين للحكومة التركية. كما أن حياة أبناء الجالية هنا لا تخلو من مصاعب الاندماج وحالات التشتت التي تستمد من أزمات المجتمعات الأوروبية نفسها والتي لا تبخل بها على من يأت للعيش فيها.

وفي فرنسا حيث أعيش كثيراً ما يحزنني تقصير الجالية التركية في الحصول على المكانة التي يستحقونها، على الأقل من باب مبادئ الأخوة والمساواة التي ينادي بها هذا البلد على نحوٍ فاقع بوصفه مهد الثورة الفرنسية، وكاتب مغرور لأول صيغة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ففي مدينة فيين وجدت حي الأتراك مرتعاً للجرابيع ومجاري المياه الآسنة. وفي مدينة ميتس مررت بجامع تركي كانت باحته مركز تجميع لحاويات القمامة. وفي هاتين المدينتين وفي باريس وليون وغيرها لم ألتقِ بأعدادٍ كافية من الجيران الأتراك في مناسبات فنية أو ثقافية، فهم مقصورون في الغالب على أنشطتهم المغلقة كجالية بعيداً عن فرنسا والفرنسيين. ولا أذكر أني شاهدت متحدثاً تركياً متوازناً تستضيفه القنوات التلفزيونية. ويحدث أحياناً أن نشاهد منشقين أتراكاً يسيئون للصورة العامة لتركيا.

يبقى المهاجرون وأبناء المهاجرين – والأتراك منهم - يدورون في حلقةٍ مفرغة من الظروف القاهرة التي تمنعهم عن الانشغال بما هو أبعد من أساسيات الحياة


إن انحياز وسائل الإعلام معروف في فرنسا ونحن لسنا هنا لشرح ذلك؛ والجالية التركية لن تكون استثناءً. لكن نستطيع أن نستخلص من مجمل مشاهداتنا على أرض الواقع غياب المساواة الحقيقية في التمثيل والفرص والحقوق بحيث يبقى المهاجرون وأبناء المهاجرين – والأتراك منهم - يدورون في حلقةٍ مفرغة من الظروف القاهرة التي تمنعهم عن الانشغال بما هو أبعد من أساسيات الحياة من مأكل ومشرب ومأوى، ثم الانكفاء على أنفسهم ودوائرهم الضيقة.
إن هذا الغرب الذي طالما عبّر عن حنانه تجاه الأقليات في الشرق ليس أفجر منه في التعامل مع الأقليات على أراضيه.