الديمقراطية في زمن الكورونا

2020.03.25 | 23:01 دمشق

alsyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع مرور العالم بأزمة في النظام الصحي لم يشهد لها التاريخ القريب مثالا في انتشار فيروس كوفيد 19 في كل دول العالم تقريبا وارتفاع نسبة الوفيات إلى ما يفوق 18620 شخصا مع ازدياد عدد الوفيات في كل دقيقة بل لحظة، يبدو السؤال مشروعا اليوم حول الفرق بين صمود النظام الصحي في الدول الديمقراطية كإيطاليا والولايات المتحدة وبين الدول التسلطية كما في الصين وسوريا وغيرها، بالتأكيد ديمقراطية النظام السياسي ليس عاملا وحيدا للمقارنة هنا، فبقدر ما فشلت إيطاليا نجحت كوريا الجنوبية بشكل مثير، أما تقييم الصين فما يزال مختلفا عليه باتجاه رصد الحالات النهائية.

أطلق سيفل وزملاؤه نظرية تقوم على أنه "لكي تتطور الدول الفقيرة اقتصادياً ينبغي عليها أن تصبح ديمقراطية"، فقد نمت الديموقراطيات الفقيرة بسرعة توازي على الأقل سرعة نمو الأوتوقراطيات الفقيرة وتفوقت عليها في الأداء تفوقاً كبيراً حسب معظم مؤشرات الرفاهية الاجتماعية، كما تفوقت هذه الديمقراطيات كثيراً في مجال تجنب الكوارث. وهو موضوع المقال هنا، أي لماذا تتفوق الديمقراطيات في الإجابة على الكوارث الصحية وعلى رأسها اليوم كورونا مقارنة مع الأنظمة التسلطية.

يناقض سيفل ورفاقه النظرية القائمة على أسطورة "التنمية أولاً" التي نادى بها من قبل سيمور مارتن ليبسيت معتبرين أن هذه النظرية أدت أولاً إلى تخليد الاستبداد، كما أنها أعطت مبرراً حقيقياً للغرب لمساندة الحكومات الاستبدادية التي كانت خارج سيطرة الاتحاد السوفييتي ليحول دون تحولها إلى شيوعية، وكتبرير قائم على أن الحكم السلطوي يخلق بنية اقتصادية وصناعية قوية في بيئة اجتماعية وثقافية هشة. بيد أن السجل الاقتصادي السيئ للحكومات العسكرية في دول أميركا اللاتينية والحكومات الدكتاتورية في أفريقيا والدول الشيوعية في أوروبا الشرقية وآسيا أسقط الهالة النظرية التي أحاطت بنجاح بعض الأوتوقراطيات في شرق آسيا خاصةً في سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وحديثاً الصين، فارتفاع نسب الفقر إلى درجة السقوط في المجاعة والإخفاق في السيطرة على نسب البطالة والفشل الصحي المتمثل في انتشار الأمراض الوبائية والجائحة جعل الكثير من الباحثين ينتهون بعد مقارنة طويلة بين الدول الديمقراطية ذات الدخل المنخفض وبين نمو الدول ذات الدخل المنخفض وتحكمها حكومات سلطوية إلى أن الديمقراطيات ذات الدخل المنخفض قد نمت بالمتوسط بسرعة توازي سرعة نمو الأوتوقراطيات ذات الدخل المنخفض خلال الأربعين سنة الماضية، كما أن متوسط معدلات نمو الدخل الفردي في الديمقراطيات الفقيرة كان أعلى بخمسين في المائة من مثيلاته في الأوتوقراطيات الفقيرة، فالبلدان التي اختارت الطريق الديمقراطي مثل جمهورية الدومينيكان، والهند ولاتفيا وموزامبيق والسنغال قد سبقت نظيراتها الأوتوقراطية مثل أنغولا، وجمهورية الكونغو، وأوزبكستان، وزيمبابوي، وتصبح الأفضلية هذه أكثر وضوحاً عندما ينتقل النقاش من معدلات النمو إلى المقاييس الأوسع للرفاهية من حيث قياس المؤشرات الاجتماعية مثل متوسط الأعمار المتوقعة، وتوفير ماء الشرب النقي، ومعدلات التعليم، وناتج الغلال الزراعية، ونوعية الخدمات الصحية العامة. 

الدول ذات الأنظمة السلطوية لم تفشل فقط في تحقيق المشاركة السياسية وبناء المؤسسات الدستورية المستقرة وإنما فشلت أيضاً في تحقيق النمو الاقتصادي

وبذلك يمكن القول بثقة إن الفرضية القائمة على جدلية "التنمية أولاً"، والتي تزعم أن الديمقراطية ستتبع آخر الأمر التقدم الاقتصادي، وبالتحديد حين يصل مستوى الدخل إلى المستوى المتوسط مما يدعم بناء الطبقة الوسطى، وهو بدوره سيجعل عددا متزايدا من المواطنين رفيعي الثقافة يطالب بمشاركة سياسية أكبر وهو ما سيقود في النهاية إلى تحول ديمقراطي ناجح، هذه النظرية منيت بفشل ذريع لأن عددا محدودا جداً فقط من هذه الدول السلطوية قد استطاع بلوغ مستوى الدخل المتوسط من بينها إسبانيا والبرتغال واليونان والتي يعود تحوّلها الديمقراطي إلى أسباب أوسع بكثير من تأثير نخبة طبقتها الوسطى، وهذا يعني أن الدول ذات الأنظمة السلطوية لم تفشل فقط في تحقيق المشاركة السياسية وبناء المؤسسات الدستورية المستقرة وإنما فشلت أيضاً في تحقيق النمو الاقتصادي الذي تتذرع به من أجل عدم تحقيق الديمقراطية. 

يعيد سيفل ورفاقه ذلك إلى عدد من الأسس المفاهيمية الرئيسية أولها لأن الديمقراطيات الفقيرة تتفوق في أدائها على الحكومات السلطوية لأن مؤسساتها تخول اقتسام السلطة مما يشجع على الانفتاح والتكيف، فتأثير القواعد الشعبية على النخب الحاكمة ينعكس بشكل جلي في تحسين البرامج الاقتصادية والتنموية لأن العلاقة قائمة على المحاسبة والمساءلة وليس على المحسوبية الضيقة التي تعطي حافزا ضئيلا لذوي السلطة في التركيز على رفاهية المجتمع، فالميّزة التنموية تتحقق في الديمقراطية اعتباراً من مبدأ المراجعة والموازنة Checks and balances أي مراجعة كل مؤسسة من مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية للأخرى بغية الوصول إلى نقطة موازنة لخدمة المصالح العامة. 

أما الأنظمة السلطوية فإن الاحتكار السياسي غالباً أو دائماً ما يتحول إلى احتكار اقتصادي مما يضعف المنافسة والابتكار وهو ما يشلّ في النهاية الفعالية الاقتصادية. 

صحيح أن الصين تمكنت من السيطرة على الفيروس لكن ثمن ذلك كان باهظا على المستوى الاجتماعي والإنساني وبسبب غياب الشفافية وانعدام الإعلام الحر لا نعرف بالضبط ماذا جرى ويجري في الصين ما قبل المرض وما بعده مما يمنعنا من بناء صورة كاملة ويؤكد الفرضية بأن الديمقراطيات تبقى الأفضل في الرد على الكوارث الصحية رغم فجاعة ما يجري اليوم في إيطاليا وإسبانيا.