الخلافات المالية بين الأزواج والزوجات اللاجئين في أوروبا

2022.12.10 | 06:01 دمشق

الخلافات المالية بين الأزواج والزوجات اللاجئين في أوروبا
+A
حجم الخط
-A

التحولاتُ التي يعيشها اللاجئ عامة والسوري خاصة، كثيرةٌ: اجتماعية وفكرية ووجودية وهويّاتية، واقتصادية كذلك، بخاصة اللاجئ الذي يكون جزءاً من عائلة بصفته أباً أو بصفتها أماً، سواء أكانت هذه التحولات فيما بينهما، أو نتيجة تغير موقعهما، أو مفهوم كلّ منهما للجانب المالي بين الماضي والحاضر، الذي يعيشانه، والمستقبل الذي يرومانه.

كان اللاجئون في بلدهم الأم يعيشون ضمن صيغ تعاقدية مستقرة: اجتماعية قانونية دينية راسخة أخذوها عن مجتمعهم غالباً، وتتسم عامة بتراتبيات محددة، يغلب عليها العرف الاجتماعي، ويقويها الظرف الاقتصادي الصعب، الذي جعلهما متكاتفيْن غالباً في وجه ظروف الحياة. لا وقت لأيّ منهما للتفكير كثيراً بالحدود فيما بينهما، خاصة أن المصروف وحاجات العائلة، عادة، ما تكون أعلى من الدخل، مما يجعل الزوج والزوجة شركاء معركة حياة يومية وأسبوعية وشهرية.

تشير الملاحظة العيانية والتجربة الشخصية إلى أن الخلافات المالية بين اللاجئين المتزوجين تشكل نسبة كبيرة من كمّ الخلافات، التي باتت إحدى السمات الرئيسية لمسار حال العوائل في أوروبا، قد يصل حجم حضورها إلى النصف من المجموع الكلي للمشكلات، لأنها ترتبط بعدة معطيات من مثل: الحقوق والواجبات، والعمل خارج المنزل، والعمل في المنزل، وممكنات الحياة الجديدة وشبابيكها، وحاجات أطفالهما، ومفاهيم الرفاهية، وتوفر الكفايات الأساسية ومصاريف البيت. وكذلك بالحوالات الدورية التي يتم إرسالها إلى الأهل إذ يرى عدد كبير من الرجال أنهم أحق بها من النساء، وهذا يفتح الباب للوقوف على مصدر تلك الأموال (بخاصة في مرحلة الاعتماد على المعاش الاجتماعي المقدم من البلديات) ومن لديه القرار بإدارتها، وضرورة التشارك في ذلك. خاصة أن اقتصاد بلدان اللجوء المستقر يقوم بتغطية الحاجات الأساسية للمواطنين، وصولاً إلى الاكتفاء الاقتصادي للأساسيات، الذي تضمنه الدولة.

برزت حاجة اللاجئين المتزوجين إلى صيغ تعاقدية جديدة، تخفُت فيها العوامل المؤثرة في المجتمع الأم لتبرز مؤثرات جديدة، وليدة تلك التغيرات

في هذا السياق نحن أمام طرفين، يحسب كلّ منهما أن لديه القدرة والرغبة بكيفة تقسيمها، أو أن يأخذ نصيبه منها، دون وجود حسيب اجتماعي؛ يمنع حرية التعبير، أو يجعل الأشخاص يتزيون بزيّ الخجل أو الصمت، أو الحياء الشرقي، الذي تمّ تحييده غالباً ليحل بدلاً منه القانون. وقد أدى تغير المفاهيم السابقة إلى حدوث هزات عنيفة، كشفت أنه ليس من السهل على اللاجئ/اللاجئة استيعاب الظرف الجديد أو تطبيقه، أو التكيف معه؛ بناء عليه برزت حاجة اللاجئين المتزوجين إلى صيغ تعاقدية جديدة، تخفُت فيها العوامل المؤثرة في المجتمع الأم لتبرز مؤثرات جديدة، وليدة تلك التغيرات.

بعد مرور سنوات على بدء اللجوء وتعلم اللاجئين من تجاربهم أو تجارب غيرهم، نجد أن عوائل اللاجئين، أو علاقة الرجل والمرأة المتزوجين، اختارت إحدى الصيغ المالية التعاقدية التالية:

  • الانتقال إلى قانون دول اللجوء، فيما يتعلق بإدارة الأموال التي تم تحصيلها في تلك الدول، إذ إنه بعد الحصول على الجنسية، ينتقل عقد الزواج أتوماتيكياً إلى القانون الجديد ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك.
  • تكييف المستجدات الجديدة مع نواظم عقد الزواج القديم، استجابة لفكرة أنه لا يمكن لجيل واحد أن يقوم بكل هذا الكمّ الكبير من التغييرات، أو يتقبلها دفعة واحدة ويستجيب لها، إذ تسود حالة من الرضا بين الطرفين اعتمادا على التاريخ المشترك واستذكار ما أنجزاه ذات يوم في مواجهة الحياة وتعقيداتها في بلدهم الأم.
  • الانفصال المالي التام، وهو نوع من أنواع الحياة القانونية في أوروبا، بحيث يكون الزوجان منفصلين عن بعضهما مالياً، والمشترك الوحيد بينهما مالياً هو حساب بنكي مشترك يضعان فيه نسبة مما يحصلانه لإدارة المشتركات بينهما من مثل: حاجات البيت من كهرباء وغاز وماء وغذاء ولباس ومصاريف الأطفال والسفر، وقد يكون وضع المال في هذا الحساب بحسب راتب كل منهما أو وفقاً لما يتفقان عليه رضائياً.

 ومن جهة أخرى يكونان متزوجين بعقد فردي، بعيداً عن جوهر الزواج بمفهوم المجتمع السوري، فهما يتقاسمان كل شيء بما فيه تنظيف البيت والحمام والمطبخ والعناية بالأطفال، وفي حال قام أحدهما بأعمال أكثر مما اتفقا عليه يمكن أن يدفع طرف للآخر أجراً مقابل ما يقوم به.

وهذه الصيغة التعاقدية تمثل في ظاهرها حالة من المساواة والتعاقد الرضائي، لكن المعاينة تكشف أنها أفقدت مفهوم الزواج والعائلة بريقهما وجوهرهما بخاصة بالنسبة لكبار السن من الجيل الأول من اللاجئين المتزوجين بحيث بدا زواجهما هجيناً. أما الشباب الذين تزوجوا حديثاً في أوروبا وبدؤوا حياتهم وفق هذه الصيغة وكل منهما يدرس ويعمل فتبدو صيغة معقولة ومقبولة ومنسجمة مع نمط حياتهما وثقافتهما الجديدة.

  • الإبقاء على الصيغة السورية المالية الأشهر والأكثر حضوراً، دون الدخول في أي تفصيل في الحياة الجديدة، إما اقتناعاً أو خجلاً أو خوفاً أو اعتياداً على الظلم أو سوى ذلك، وجوهرها الرجل هو الذي يدير كل الشؤون المالية، بما فيها العمل خارج البيت، وهذه الصيغة تمثل نسبة كبيرة من السوريين ممن هم فوق الأربعين، أما من هم في سن العمل والأقرب إلى مرحلة الشباب، فغالباً أوجدوا صيغاً ما للتعايش المالي.
  • الوصول إلى مرحلة الطلاق والانفصال نتيجة الخلافات المالية، وعدم قدرة الطرفين على التخلص مما سبق من اتفاقات أو تكييفها مع الواقع الجديد والمستجدات الجديدة، ويشكل الطلاق لأسباب مالية جزءاً كبيراً من أسباب طلاق اللاجئين في أوروبا.

ولا بد هنا من الإشارة إلى عدد من المتغيرات المؤثرة في أنماط الطلاق السابقة، من مثل العمر والمكانة الاجتماعية، والتعليم، والمؤثِّر الديني والاجتماعي والفكري، وأثر الأهل ومرجعياتهما، ونمط العلاقة السابق بين الزوجين، وكذلك عمر الزواج وأثر الأطفال، ومفهوم العائلة لدى الطرفين والحرص عليها أو سهولة هدمها. وكذلك فكرة اللجوء وأوجاعه وصدمته وأثرها الكبير جداً على من خاضوا التجربة، والتحول في المكانة والأدوار، والقدرة على التكيف والاندماج مع التغيرات العنيفة الجديدة.

تسود لدى شريحة كبيرة من اللاجئين مفاهيم غير صحيحة من مثل أن القوانين الأوروبية تنتصر للمرأة ضد الرجل، وهو مفهوم غير صحيح لأن القوانين الأوروبية، على الأقل من تجربتي الهولندية، تنظر للأفراد على أنهم أفراد لهم حقوق وواجبات والصيغ القانونية الناظمة لهم هي الأساسية. وها هنا التعاقد الفردي وليس الاجتماعي ودور كل شخص فيه هو المهم. ومما يراكم مثل تلك المفاهيم غير الصحيحة غياب المعلومة لدى نفر كبير منهم، أو سوء تفسير القانون والرغبة بأن يكون متحيزاً، أو عدم تعلم لغة البلد الجديد، إضافة إلى أن  محاولة "مزج" عقد الزواج السوري مع عقد الزواج الأوروبي كشفت عن عدم وجود معرفة بما كان من حقوق للمتزوجين في سوريا بخاصة النساء، نتيجة وجود فكرة جوهرها أن القوانين الشرقية تعطي الرجل كل الحقوق، متناسين أنها تضع عليه كذلك كل الواجبات، ويحدث خلط كبير حين الحديث عن الماضي "القانوني" بين العرف الاجتماعي الشرقي والديني من جهة، والقانوني من جهة أخرى، الذي يتسم بغياب الوضوح والمعلومة الصحيحية في البلد الأم. القانون الهولندي من جهته سنّ منذ خمسة وأربعين عاماً نواظم خاصة لحاملي الجنسيات المزدوجة أو ممن وصلوا إلى هولندا وغدوا هولنديين بالتجنس لاحقاً، ونظمها بطريقة تضمن أقل كمّ ممكن من سوء التفاهم فيما لو لجأ الزوجان إلى القوانين الهولندية.

نسبة الخلافات بين المتزوجين حديثاً في أوربا أقل بكثير من تلك التي وقع فيها الجيل الأول من الآباء والأمهات، فعقود الزواج الجديدة بين اللاجئين في أوروبا ينتابها الوضوح والدخول في التفاصيل كلها مسبقاً والاتفاق عليها، وصولاً إلى ما يسمى في الثقافة الهولندية بمصطلح "الزواج البارد" وهو مفهوم جديد للزواج يحاول أن يضع كل التفاصيل وتفاصيل التفاصيل في عقد الزواج.

تسمع في يومياتك الأوروبية كل يوم حكاية عن "الغدر" في منتصف الطريق، يرويها لك رجل أو أمرأة، يدعي كل منهما أن الآخر خان العشرة، أو استخدمه مرحلة ما من عمره

 وهناك نمط آخر من الزواج بدأ يشيع لدى شريحة الشباب والصبايا هو الزواج الديني، الذي يغطي العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة، والدافع الرئيس للاعتماد عليه هو المحافظة على المكتسبات المالية المقدمة للفرد من البلديات، التي قد يفقدان بعضها إنْ ثبِّت زواجهما في البلدية.

تسمع في يومياتك الأوروبية كل يوم حكاية عن "الغدر" في منتصف الطريق، يرويها لك رجل أو امرأة، يدعي كل منهما أن الآخر خان العشرة، أو استخدمه مرحلة ما من عمره. جوهر الشكوى والتذمر، أن الرجل (زوجها) نسي خدمات المرأة في البيت والإشراف على الأطفال من جهة. ومن جهة أخرى تسمع من الرجل حديثاً عن المرأة (زوجته) التي ما إنْ أتيحت لها فرصة قانونية حتى أنكرت تضحياته وما قدمه لها في الماضي.

 في الوقت الذي يحاول كل من الرجل والمرأة الظهور بأنهما معاصران ولم يعد يهمهما الماضي ومعجبان بالحياة الأوروبية والجنسية الجديدة؛ نجد أن محركات كل منهما في معجمه اللغوي والسلوكي ذات طابع ماضوي تنهل من معجم الغدر والظلم والحيف التاريخي توصيفاتها وسردياتها ومظلومياتها، كأن كلاً منهما تعيش بأعماقه "دولة عميقة" تأبى أن تفارقه، أو يأبى أن يفارقها.