الحفلات الفنية في سوريا: بروباغاندا النسيان

2023.08.01 | 06:18 دمشق

الحفلات الفنية في سوريا: بروباغاندا النسيان
+A
حجم الخط
-A

تنشط الحفلات الفنية في سوريا بعد أن كانت قد توقفت مع انطلاق الثورة ضد النظام عام 2011 حيث يلحظ متابع المشهد السوري، طغيان المشهد الاحتفالي الصاخب والموثق بفيديوهات وصور، والمرفق بحملات ترويجية منظمة وشاملة يقودها إعلام النظام والصفحات الموالية له بشكل مماثل للطريقة التي كانت ولا تزال تدار من خلالها الأعمال العسكرية، لناحية تحويل النشاط الفني إلى صيغة نشر مفاهيم المحو والنسيان، والتي لا تني تكرر منذ بداية الثورة العنوان العريض والوهمي نفسه والذي يدعي أن لا شيء يحدث في سوريا.

يتم تفعيل المهرجانات مثل مهرجان قلعة دمشق ومهرجان الوادي وغيرها، وتظهر إضافة إلى النجوم السوريين مثل سارية السواس وعمر سليمان وغيرهم أسماء العديد من النجوم اللبنانيين والعرب مثل مروان خوري، جوزيف عطية، زياد برجي، وصابر الرباعي وغيرهم على قائمة الحفلات المقرر عقدها في سوريا، ولكن ذلك المشهد الذي يعمم ويفرض عبر السطوة الدعائية والإعلامية بوصفه اختصارا للوضع السوري وتكثيفا رمزيا بليغا لانتصار الأسد، يعمل على إخفاء سلاسل الأزمات المنتشرة في كل بقعة من الجغرافيا السورية، والتي لم تعد تفرق بين مناطق موالية ومعارضة، بل باتت سمة تتصف بالعمومية والشمولية.

ولا يحيل مشهد الحفلات إلى واقع الانهيارات الاجتماعية والاقتصادية المتمادية وغير الآيل للإخفاء في إطار التناقض الواضح وحسب، ولكنه يكشف أن آلية العمل الدعائية لم تعد تبالي بالإقناع ولو عبر الإيهام، والخداع ولكنها تنطلق من وجود إيمان مسبق يصبح معه تطوير آليات التلاعب بالعقول وعرضها بطريقة تحتوي على قدر من المعقولية والتماسك غير ضروري، لذا تفصح هشاشة الإيحاء عبر مشهدية الحفلات بأن الوضع على ما يرام مترعة بالهشاشة القصوى والمتهالكة، والتي تشكل في حد ذاتها مشكلة أمام من يسعى لتسفيهها وتفنيدها كونها تمثل حدا أقصى من انعدام التمركز والتدليس يصعب إرجاعه إلى آليات عمل واضحة أو ربطه بسياق منطقي أو سياسي يمتلك بنى واضحة المعالم.

الأسد وجهازه الإعلامي والأمني ليسوا على هذا القدر الكبير من الذكاء والقدرة على صناعة البروباغاندا المتينة، ولكنهم يعلمون أن هذا القدر غير المسبوق من العنف والجريمة وسحب أبسط شروط العيش من كل السوريين الموالين وغير الموالين قد دمر كل عناصر المناعة عندهم، وقزم الحس النقدي ونجح في تحويلهم إلى كائنات مسلوبة تبحث عن أبسط طاقة بهجة أو أمل، لتخرج من جحيم العيش المستحيل، وبذلك نفهم ذلك الاستقتال على حضور حفلة هاني شاكر العام الماضي وهذا الاحتشاد الذي تشهده الحفلات المقامة هذا العام والاهتمام الكبير بما سيقام منها لاحقا.

القطيعة الشرسة بين العالم الذي تبثه وتدافع عنه وبين العالم السوري الفعلي يجعلها أقدر على النطق باسم ما يسعى إليه النظام من خلالها، وهو توليف البروباغندا بنكهتها الأسدية الخالية من الذكاء

لا يعكس ذلك سوى الحنين إلى ما لم يعد ممكنا. يذهب المقتدرون إلى الحفلات وكأن الأمر يعني أنهم عادوا إلى حياتهم العادية والمألوفة، ولكن سطوة الأوضاع البائسة تمنعهم من التأكيد على ذلك. قوة الخراب وعموميته تزيدان من سطوة الدلالات الرمزية للحفلات فهي تجعلها حلما يتشكل داخل خراب.

القطيعة الشرسة بين العالم الذي تبثه وتدافع عنه وبين العالم السوري الفعلي يجعلها أقدر على النطق باسم ما يسعى إليه النظام من خلالها، وهو توليف البروباغندا بنكهتها الأسدية الخالية من الذكاء، والحافلة بالركاكة والمستجيبة للمعنى الأولي والمباشر لمعناها المرتبط بنشر الإيمان بالأوهام.

ولكن المفارقة أن النظام لا يؤمن بنفسه ويحتاج على الدوام إلى ارتكاب المجازر، على الرغم من أنها باتت بلا أي جدوى بعد أن صار موقعه داخل المعادلة السورية متضائلا وهزيلا، ما يعني أنه يحتاج إليها لكي يبقى متصلا مع صورته والتي يحتاج إلى الإيمان بها ليستمر في القيام بما يقوم به.

لا نفهم معنى قتل مدنيين بصواريخ موجهة وغيرها من الارتكابات اليومية التي لا يمكن تحليلها في ظل غياب أهدافها إلا بوصفها جزءا من التعبير عن الذات الأسدية المتوترة والقلقة، والتي لا يمكنها أن تحيا إلا داخل عالم المجازر.

من هنا لا تكون تلك الحفلات سوى محاولة للتأسيس للنسيان التام والشامل لكل ما جرى وما يجري. طريقة التعامل معها ضمن منطق البث الأحادي الاتجاه الذي يستخدمه النظام يحولها إلى الحدث الواحد والوحيد في سوريا.

وجع سقوط الامتيازات عند الطبقات التي كانت تمتلكها أو تقليصها وصولا إلى إلغائها الذي طال المقربين من النظام والموالين، يقرب في طبيعته وطريقة تلقيه بين مختلف الفئات

لا شيء في سوريا سوى الحفلات، يقول النظام محاولا فرض هذا التصور بقوة الميديا والسطوة الأمنية وتاريخ التعب المهلك الذي أوقع السوريين في دوامة جارفة من اليأس العميم، حيث لم يعد أي شيء قادر على حمل المعاني.

يتم خلق بنية توحيد عامة بين الجميع بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والمادي وحتى الموقف السياسي، وذلك لأن الهلاك طال الجميع بلا استثناء وإن بدرجات متفاوتة، ولكن وجع سقوط الامتيازات عند الطبقات التي كانت تمتلكها أو تقليصها وصولا إلى إلغائها الذي طال المقربين من النظام والموالين، يقرب في طبيعته وطريقة تلقيه بين مختلف الفئات.

من هنا يمكننا القول إن الجميع مذبوحون في سوريا ويرقصون من شدة الألم سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، ولعل الصرخات التي بدأت تعلو في المناطق الموالية قد تنتج في القادم من الأيام خطابا يعترف أن نظام المصالح السوري العام لا يمكنه أن يتبلور بأي شكل من الأشكال في ظل الأسدية ومن دون العمل على تصفيتها وتصفية ميراثها.

إذا كان ثمة مجال لإعادة خلق مفهوم الوطن السوري والوطنية السورية فإن ذلك لن يكون سوى عبر عملية تشبيك مصالح كل السوريين حول ذلك العنوان وطرحه بشكل يعلو على السياسة والخلافات واعتباره قضية وجودية، فإذا كان الموت المحتوم مصير الكل تحت ظلال الأسد الذي يحاول دفن الحدث السوري كله في عالم المهرجانات والحفلات، ولما كان قد بات يمثل منظومة تتقلص دائرة المستفيدين منها حتى باتت تشمل أشخاصا وحسب وليس مناطق وفئات ولا تعكس امتيازا ماديا واجتماعيا وخدماتيا مباشرا يطول مجالا طائفيا محددا، فهل سيكون من مصلحة أي جماعة سورية الركوب في سفينة الأسد المثقوبة؟